انزوت فى أحد أركان محطة مصر، وجلست على بعض أمتعتها، التقطت طفلها الصغير ترضعه، بعد أن صنعت من ملابسها البسيطة وطرحة تتشح بها ستارة أخفت بداخلها الطفل فلم يعد يظهر منه شىء، فى انتظار القطار الذى سيقلها إلى بلدتها الصغيرة، لتقضى مع أسرتها إجازة العيد.
أما زوجها فقد تفرغ لمراقبة حركة القطارات، يتنقل بين الحين والآخر بين أرصفة المحطة، عسى أن يجد قطارا يقله هو وزوجته وأطفاله الخمسة إلى قريتهم الصغيرة «نجع أبو حميد»، التابعة لمركز إسنا بمحافظة الأقصر.
هى سيدة بسيطة، مثلها مثل آلاف السيدات بالصعيد، ترتدى ملابس فضفاضة، لا تظهر إلا وجهها وبشرتها السمراء، تحدثت بصعوبة وتحفظت على ذكر اسمها، متذرعة بالعادات والتقاليد، قائلة: «فى انتظار قطار الدرجة الثانية العادى، الذى يطلقون عليه اسم (حورس)، لمدة ست ساعات، وعندما حضر لم أتمكن من الركوب بسبب الزحام والتدافع الشديد، فقررت انتظار القطار الذى يليه». لا تعرف هذه السيدة متى ستركب القطار، ولكنها تعرف أنها ستقضى 17 ساعة، وهى واقفة أو جالسة فى إحدى طرقات القطار، حتى تصل إلى قريتها.
زوجها عامل فى مجال المعمار، يدعى «عبدالدايم عيد»، يرتدى جلبابا صعيديا فضفاضا، بالرغم من معاناته فى انتظار القطار إلا أنه بين الحين والآخر يلتقط ابنه الصغير «عام ونصف» محاولاً مداعبته لتخفيف عذاب الانتظار الطويل وآلامه، بعد أن كسرت يده أثناء نزوله على سلم الغرفة البسيطة التى يسكنون بها فى البدروم، فوضعها الطبيب فى الجبس، وحملها الطفل الصغير بشريط شاش حول رقبته الصغيرة.
يقول «عبدالدايم»: «لا أستطيع ركوب القطار المكيف»، قالها بحسرة، فهو لا يستطيع دفع قيمة خمس تذاكر له ولأسرته، حتى يصل إلى قريته ولكنه يستطيع ركوب القطار العادى، ودفع أقل من نصف المبلغ الذى سيدفعه فى القطار المكيف، وعليه أن يتحمل المعاناة والمصاعب التى تحيط به داخل وخارج القطار أثناء رحلته.
مشكلة «عبدالدايم» وأسرته البسيطة مع قطار العيد يعانى منها آلاف الركاب الذين تكتظ بهم محطة مصر، بحثاً عن مكان فى أحد القطارات، خاصة أنه لا يوجد حجز منذ أسبوعين، كما أكد لنا أحد موظفى شباك التذاكر فى محطة مصر.
بالرغم من ذلك افترش الركاب أرصفة المحطة، وجوه ارتسمت عليها علامات الأسى، وعيون زائغة متعبة، أطفال ونساء وشيوخ سدوا الطرقات والمداخل والمخارج، ووقفوا فى طوابير طويلة بغية الحصول على تذكرة سفر تنقلهم إلى قراهم الفقيرة، وترحمهم من الوقوف فى طرقات القطارات، أو الجلوس بين العربات وداخل دورات المياه، ومطاردة «الكمسرى» داخل القطار، الذى يجبرهم على دفع قيمة التذكرة مضافا إليها الغرامة المقررة «التطويقة».
وبمجرد أن يعلن المذيع الداخلى بالمحطة وصول أحد القطارات يضرب الأرصفة نوع من الفوضى، فتجد الركاب يقطعون شريط القطار، ويقفزون بين الأرصفة غير عابئين بخطورة ذلك. حكى أحدهم بعد أن استطاع حجز مكان للوقوف عن وقوع الكثير من حوادث الدهس على أرصفة المحطة، بسبب التدافع ومحاولة اللحاق بالقطار.
عندما تعالت أصوات المذيع الداخلى معلنة وصول القطار «العادة» على الرصيف رقم «11»، بدأ «عبدالدايم» ومئات الركاب فى الاستعداد للركوب، الذى جاء وقد امتلأ عن آخره، عمت الفوضى أرجاء المكان، بدأ بعض الركاب فى دخول القطار من الشبابيك، وبعضهم انحشر بين العربات خلف الجرار، وآخرون حاولوا الصعود للقطار من الباب، فدخلوا فى مشاجرات عنيفة مع الركاب الذين سبقوهم فى ركوب القطار، وملأوا كل أرجائه ولم يعد هناك موطئى لقدم.
راح شاب يلف شالاً حول رأسه، ويرتدى «فانلة حمالات وبنطلون جينز»، يقف خلف أحد أبواب القطار بعد أن أغلقه بإحكام، ولكن طوفان البشر الذى اندفع نحو الباب أجبره على فتحه نصف فتحة، فدخل فى شجار مع شاب آخر يريد الصعود للقطار واشتبك معه، وراح يسدد له لكمات قوية الواحدة تلو الآخرة، لولا تدخل أحد المخبرين السريين الذى أنهى الأمر، وأجبره على فتح الباب للركاب.
أما «عبدالدايم» وأسرته الصغيرة فقد تمكنوا من الصعود، حيث دلف فى وسط الزحام وكأنه مدرب على ذلك، وفتح الطريق لزوجته وأطفاله، ليبدأ رحلة أخرى من المعاناة داخل القطار، الذى ظل فى انتظاره لمدة تزيد على ثمانى ساعات.
دقائق معدودة وبدأ القطار فى التحرك، فشل عدد كبير من الركاب فى الصعود للقطار، منهم رجل هرم يتوكأ على عصا هرمة مثله، يرتدى عمامة، ارتسمت على وجهه علامات الزمن تاركة آثارها الظاهرة عليه، جلس على أحد مقاعد المحطة ينظر فى حسرة لما يحدث حوله.
فى حوالى الساعة العاشرة والنصف، بعد مرور ساعة تقريباً وصل إلى نفس الرصيف، الذى امتلأ عن آخره بالركاب، قطار من نفس نوعية سابقه، حاولنا الصعود إلى إحدى العربات بصعوبة، بعد مشاجرات مع الركاب دلفنا من أحد الأبواب وسط الزحام، لنقف بالكاد وسط إحدى عربات القطار غير الآدمية، مع توافد الركاب تحولت عربة القطار إلى علبة سردين، لا تستطيع أن تحرك قدميك يميناً أو يساراً، بسبب الأجساد التى افترشت الأرض.
كانت المشاجرات مشتعلة على الأبواب، ستجد شاباً أو أسرة بأكملها تدخل القطار من أحد الشبابيك، مرت الدقائق ثقيلة، ارتفعت درجات الحرارة بشدة، حتى خلع عدد من الشباب بعض ملابسهم، فى تلك الأثناء بدأ بعض الباعة الجائلين فى دخول القطار وبيع المياه للركاب من خلال الشباك، زجاجة مياه صغيرة بجنيه من حنفيات المحطة معبأة فى علبة مياه معدنية، جمعها الباعة من صناديق القمامة.
بدأت أكوام من اللحم تملأ الطرقات وحمامات القطار، التى اتسعت لخمسة أو ستة رجال، فمنعوا أى راكب طوال الطريق من قضاء حاجته، وآخرون صعدوا ليناموا على الأرفف المخصصة لأمتعة الركاب، الذين دخلوا معهم فى مشاجرات، بعد أن احتلوا أماكن وضع أمتعتهم وراحوا فى نوم عميق.
بلهجة صعيدية لا تخلو من «الدال»، قال شاب جالس على أحد المقاعد: «القطار امتلأ تماما قبل 4 ساعات فى المخزن». فى أوقات الذروة والأعياد يهجم الركاب على مخازن قطارات السكة الحديد فى أعداد كبيرة، ليحجزوا مكاناً لهم فى القطارات العادية من بداية الخط، خاصة أن هذه القطارات بدون حجز، وبمجرد أن تدخل هذه القطارات إلى محطة رمسيس تكون ممتلئة عن آخرها، وهو ما يتسبب فى مشاجرات بين الركاب الذين احتلوا القطار بالفعل، والركاب المنتظرين على أول محطة للقطار فى رمسيس، ومن بعدها الجيزة.
بعد حوالى 45 دقيقة من التوقف، بدأ القطار فى التحرك، فتعالت أصوات الصافرات والتهليل، التى أطلقها الركاب سعداء بتحرك القطار، دقائق وبدأ الظلام يسود القطار، وراحت العربات، تصدر أصواتا عالية بسبب الاحتكاك.
بدأ الشباب الذين خلعوا ملابسهم من شدة الحر فى ارتدائها مرة أخرى من شدة البرد والهواء، الذى انساب إلى القطار من كل مكان، من الشبابيك المكسورة والأبواب المفتوحة على مصراعيها بسبب اكتظاظ القطار بالركاب، حتى إن بعضهم كان يصرخ ويطلب النجدة بعد أن كاد الزحام يقذف به خارج القطار وهو يسير بأقصى سرعة.
بعد أن عبر القطار محطة الجيزة ركن على جانب الطريق مرة أخرى وسط الزراعات فساد الظلام عربات القطار، وبدأ عدد من الركاب الشباب فى إخراج كشافات الموبايل، التى أظهرت أن كثيراً من الركاب راحوا فى نوم عميق من شدة التعب، وآخرين تجاذبوا أطراف الحديث، عن الأحوال السياسية للبلد وقضايا الدستور، فتبنى فريق وجهة نظر الإخوان، وآخرون هاجموا سياسات مرسى بشدة، بعد أن حملوه سبب ما هم فيه من عناء وشقاء.
وبدأوا فى تبادل النكات السياسية عن عصر مبارك، فأطلق رجل أربعينى يفترش الأرض إحدى النكات قائلاً: «مبارك يقول للعادلى معاتباً له فى السجن، ليه يا عادلى قطعت الحشيش والمخدرات، أهو الناس فاقت وعملوا علينا ثورة»، قالها وراح الجالسون فى نوبة ضحك، وغالبا ما تنتهى نقاشاتهم السياسية الساخنة بنكتة يطلقها أحدهم من فوق الأرفف أو من المرحاض أو أحد الجالسين فى الممرات، بدأت كل الأصوات داخل القطار تتداخل وتمتزج، أحدهم كان يستمع لأغنية شعبية وآخر لموال صعيدى، وثالث راح يستمع للقرآن، هذه الأصوات المتباينة غطت بدرجة كبيرة على أصوات عجلات القطار الحديدية المزعجة.
أحد الركاب أسند معصمه على مسند كرسى أمامه وأغمض عينيه، وراح فى نوم عميق وهو واقف، مائلا بمعظم جسده على الشخص الجالس على الكرسى، الذى استسلم للنوم هو الآخر.
بعد حوالى ساعة ونصف الساعة على تحرك القطار بدأت أصوات الباعة الجائلين توقظ الجميع، تشق أقدامهم الطريق وسط الأجساد التى افترشت الأرض، بحرفية شديدة وكأنهم يلعبون «أكروبات»، أحدهم كان يبيع الشاى بجنيه واحد، وآخر حمل «جردلاً معدنياً» مملوءاً بزجاجات المياه المعدنية، الزجاجة الصغيره ثمنها 2.5 جنيه، ومشروبات غازية فى علب صفيح ثمنها 3 جنيهات، أما الثالث فقد حمل فوق كتفه لوحاً خشبياً كبيراً تراصت عليه وجبه بسيطة عبارة عن رغيف عيش وقرص طعمية، وقطع من الخيار والطماطم، وضعت بصورة عشوائية، ثمن الرغيف جنيه واحد.
مع حركة القطار والاستغراق فى النوم بدأت أمتعة الركاب تتساقط على الجالسين، وبدأت معها المشاجرات، بعد أن حاول أحد الجالسين على الأرض قذف الحقيبة خارج القطار، لولا تدخل بعض الركاب لاحتواء الموقف، مشاجرة أخرى نشبت مع راكب جلس على كرسى وافترش بقدميه الآخر، حيث دخل أحد الركاب فى مناقشة معه، وكاد الأمر يتطور إلى مشاجرة لولا أن توصل الطرفان لاتفاق يرضى الجميع، جلس أحدهم على الكرسى ووضع الآخر قدميه بجواره.
بعد ثلاث ساعات من الوقوف افترشنا الأرض وجلسنا بجوار رجل بسيط، يرتدى ملابس عمله، فكما يقول لم يكن لديه وقت لتغييرها، اسمه محمود من مركز ديروط بمحافظة أسيوط، قال: «أنهيت عملى بعد العصر فى محافظة دمياط بعدها حضرت للقاهرة وركبت هذا القطار»، يركب «محمود» هذا القطار منذ 12 عاما، يعرفه خباياه ومواعيده جيداً، حسبما يقول، يبتسم ويضيف: «ما تراه بين الركاب ليس مشاجرات حقيقية، كله كلام، ففى المشاجرات الحقيقية يتحول القطار لساحة حرب بين الركاب تنتهى فى أقرب محطة، ويذهب بعضهم إلى المستشفى إذا كانت إصابته خطيرة، وهو ما لم يحدث فيما شاهدناه».
كل ما يؤرق محمود هو كثرة توقف القطار، وركنه فى الطريق لتعبر القطارات الأخرى، والباعة الجائلون الذين يتحكمون فى حركة سير هذه القطارات، عن طريق سكينة الهواء التى يقوم البائع بالضغط عليها فيتوقف القطار لينزل منه فى أى مكان، هذا بخلاف النشالين الذين ينتشرون فى المواسم والأعياد.
عندما دخل القطار محطة «الواسطى» التابعة لمحافظة بنى سويف، بدأنا فى التحرك للنزول من القطار، كانت أقدامنا تتحرك بصعوبة للنزول من القطار، كنا نشق طريقنا وسط الأجساد التى ملأت الطرقات، وعندما وصلنا إلى الباب وجدناه مغلقا، فكان الحل هو النزول من الباب المقابل للرصيف على القضبان مع العشرات الذين انتهت رحلتهم. توجهنا إلى رصيف القطار العائد إلى القاهرة، لنجد بعض الباعة الجائلين الذين شاهدناهم فى القطار المتجه إلى الصعيد تجمعوا حول أحد الأكشاك على المحطة، وكانت الساعة حوالى الثالثة والنصف صباحاً.
يقول أحدهم: «صور بطاقاتنا الشخصية عند رئيس مباحث محطة الجيزة ونحن نساعد الشرطة ونحمى القطارات من النشالين». قطع الحديث زميل لهم، أخرج من بين طيات حافظة نقوده ورقة مشروع تأسيس «نقابة مستقلة للباعة الجائلين»، كل أحلامهم تقنين أوضاعهم وعدم مطاردة الشرطة لهم، خاصة أن العلاقة بينهم وبين الشرطة علاقة منفعة متبادلة.
فى رحلة العودة كانت الأنوار مطفأة تماماً، وعندما وصل القطار إلى محطة الجيزة قفز الباعة حاملين بضاعتهم بمنتهى السهولة، من القطار وهو يسير بسرعته دون أن يتوقف، ولكننا لم نستطع النزول إلا فى محطة رمسيس، لنشاهد نفس الصورة التى تركناها منذ خمس ساعات: رجال وسيدات وأطفال وشيوخ نائمون فى انتظار أول قطار متوجه إلى الصعيد.