هل كان يعرف؟.. أتصور أن إحساسه كان يقول له اقترب الوداع، كثير من التفاصيل أشارت إلى أنه كان يدرك أنها اللحظات الأخيرة، كنا جميعا نعرف، إلا أننا فى نفس الوقت كذبنا مشاعرنا، وانتظرنا معجزة السماء.
فى الأشهر الأخيرة كثيرا ما التقيته أثناء إعدادى كتاب (وحيد حامد.. الفلاح الفصيح)، كان بصدد كتابة الجزء الثالث من ملحمته عن الإخوان (الجماعة)، تتناول مرحلة أنور السادات، وهى إحدى عشرة شائكة وفارقة جدا فى تاريخ مصر، عندما أطلقهم السادات من أجل التهام اليسار والشيوعيين فكانت النتيجة أنهم التهموه وأرادوا بعدها التهام الوطن.
لم يبدأ وحيد فى الكتابة إلا بعد أن حصل على ضوء أخضر وموافقة مكتوبة من شركة (إعلام المصريين) تمنحه الحرية لذكر كل الحقيقة، الموقف حساس جدا، والحلقات تتناول رئيس مصر الأسبق، ولم نتعود فى أعمالنا الدرامية على انتقاد رئيس مصر، وافقت الدولة، بلا محاذير أو محظورات. إشارة الدولة كانت محورية جدا، وحيد يراهن فقط على الحقيقة، المدعومة بالوثيقة، وهو أبدا لن يخون الحقيقة، ولهذا كان لا بد من موافقة العديد من الأجهزة، أيضا طلب وحيد ألا يتقيد بتنفيذ المسلسل قبل شهر رمضان 2021، يريد أن يمتلك كل الوقت لا أن يمتلكه الوقت، الشرط الأساسى هو الزمن المفتوح، جمعه عدد من الجلسات مع مخرج الجزء الثالث، وهو أيضا الذى أخرج الجزء الأول؛ محمد ياسين.
اعتذر ياسين عن كل ارتباطاته السابقة ليتفرغ للمشروع، فهو أحد أقرب المخرجين من جيل الألفية الثالثة، إلى مشاعر وفكر وحيد، بعد الثلاثة الكبار سمير سيف وعاطف الطيب وشريف عرفة.
أتذكر أننى كنت أزوره فى مجلسه المفضل بالكافتيريا المطلة على النيل، وأجد بجواره الحقيبة مغلقة، وهذا يعنى أنه أعاد الأوراق، سألته عن الإنجاز اليومى فقال لى أمسكت بالقلم ولم أجد نفسى متدفقا على الورق فتوقفت، وحيد يكتب بينما من الممكن أن تلمح حوله صخب الناس، إلا أنه يخلق عالمه الخاص، فلا يسمع ولا يرى فى تلك اللحظات سوى أبطاله، ولهذا فهو كما قال لى لا ألزم نفسى بالقلم، القلم هو الذى يلزمنى بإمساك القلم، والأفكار تتدفق منى على الورق بدون أن أفرضها، كان يكتب خمس حلقات يتقدم بها، وبعد الموافقة يكتب الأخرى، لا أدرى على وجه الدقة كم كتب بالضبط من الحلقات.
حصل وحيد على جائزة استثنائية فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، ولأول مرة يتم تغيير مسمى الجائزة لتصبح «الهرم الذهبى»، وقبلها كان قد حصل على أرفع الجوائز المصرية «النيل» 2012، ولكنى أرى أن أهم جائزة نالها هى تلك التى تابعناها فى الندوة التى أقيمت له بالمسرح المكشوف 6 ديسمبر الماضى، أعقاب تكريمه بمهرجان القاهرة، عندما اكتظت الصالة بكل عشاق وحيد ومن كل الأعمار والطبقات، ومن لم يتمكنوا من الدخول للقاعة أضعاف من استوعبهم المكان.
كان وحيد مبهجا وهو يستقبل الأسئلة ومبهجا وهو يجيب عنها، ولولا التزامنا بموعد إنهاء الندوة لاستمرت ساعات.
قرأ «الفلاح الفصيح» روح مصر الوسطية التى لا تعرف أبدا التطرف، ومن هنا جاء موقفه الحاسم ضد الإخوان، وعندما حصل على جائزة «النيل» فى نهاية عام 2012 وهى المرحلة الزمنية البغيضة فى تاريخنا التى تولى فيها الإخوان حُكم الوطن، جاءت الضربة الموجعة لهم أيضا من وحيد حامد، «وحيد» هو ثانى سينمائى يحصل على تلك الجائزة- نالها فى 2008 المخرج «يوسف شاهين»- تستطيع أن تعتبرها ضربة استباقية، رسالة تؤكد أن أهم وأشهر كاتب درامى قدم العديد من الأعمال الدرامية التى تفضح الجماعة الإسلامية والتطرف الدينى وآخرها مسلسل «الجماعة» يستحق أرفع الأوسمة، وأن هذا هو أيضا موقف القطاع الواسع من المثقفين.
وحيد لديه تاريخ عريض ومشرف فى هذا المجال نذكر منه مسلسل «العائلة» 1994 أول صرخة تليفزيونية ضد التطرف الدينى، بالإضافة إلى أفلام مثل «طيور الظلام»، «الإرهاب والكباب»، «دم الغزال» وغيرها، وكلها تحمل طعنات لكل من يعتقد أنه سوف يتدثر بلحية أو جلباب ويفعل كما يحلو له فى حياة الناس. «وحيد» لم يكتف بهذا القدر حيث أكد أنه بصدد كتابة الجزء الثانى من فيلم «طيور الظلام» ولم يكن لديه مشروع لجزء ثان، والعمل الفنى انتهى بالفعل عند مشهد النهاية وتلك الحيرة التى شاهدناها، والكرة تنطلق وصوت تحطم الزجاج، ولكن أراد وحيد أن يتحداهم فى عز قوتهم وهم يمسكون زمام الوطن.
وحيد حامد كان صوتا للمعذبين فى الأرض بقدر ما كان صوتا للحرية، لم يعبر سوى عن قناعاته وأفكاره، لم يرض أبدا بنصف الحقيقة ولا بنصف الشجاعة، فكان هو المعبر عن أحلامنا وآمالنا وحق الإنسان فى الحياة الكريمة.
شكرًا للأستاذ وحيد حامد الذى منحنى فى حياتى الصحفية هذا التكريم مرتين؛ أن أشهد بداياته فى الإذاعة المصرية «البرنامج العام»، قبل أن يبدأ مشواره السينمائى، وأن أكتب عنه كتاب «وحيد حامد.. الفلاح الفصيح»، بترشيح منه، فكان لى أيضا معه أن أحتفظ بكلماته الأخيرة بين دفتى كتاب.
كنت وستظل المبدع الكبير، والصديق الكبير، والإنسان الذى لا يعرف أبدًا الغياب.