ينبغى أن نعلم أولًا أن قضية «ختان الإناث» ليست قضية دينية تعبدية فى أصلها، وإنما هى قضية طبية عادية، أى من قبيل موروث العادات والاعتماد على أقوال الأطباء ونصائحهم. وانتشرت هذه العادة بين دول حوض النيل قديمًا، فكان المصريون القدماء وغيرهم من الشعوب فى حوض النيل يختنون الإناث، وقد انتقلت هذه العادة إلى بعض العرب، كما كان فى المدينة المنورة، أما فى مكة فلم تكن هذه العادة منتشرة؛ ولذلك عندما ذهب النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووجد أن العادة هناك مستقرة عندهم نصح من تختن الإناث بألا تنهك فى الختان كما فى حديث أم عطية؛ أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم: «لا تنهكى؛ فإن ذلك أحظى للمرأة، وأحب إلى البعل» «أخرجه أبوداود».
والختان كما يصفه الأطباء فى عصرنا الحديث على أربع مراحل؛ الأولى منها: هو نوع من أنواع عمليات التجميل التى ينصح بها الأطباء عند الحاجة إليها، وهذا هو الختان فى مفهوم المسلمين، أما المراحل الأخرى وإن اشتهر أن اسمها ختان عند الأطباء إلا أنها فى حقيقتها تعد عدوانا فى مفهوم الشرع الشريف؛ لما فيها من التجنى على عضو هو من أكثر الأعضاء حساسية، حتى إن هذا العدوان يستوجب العقوبة والدية الكاملة «كدية النفس» إذا أدى إلى إفساده، كما هو مقرر فى أحكام الشريعة الغراء.
وفوق كل ذلك، فلم يرد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه ختن بناته، وتَرْكُ النبى ختان بناته، صلى الله عليه وسلم، مع انتشاره فى المدينة- وهو أسوتنا- يبين المسلك القويم فى تلك القضية؛ كما أنه لم يرد نص شرعى صحيح صريح يأمر المسلمين بأن يختنوا بناتهم حتى بمفهوم المرحلة الأولى التى ينصح بها الأطباء فى بعض الحالات؛ ولذلك كان استمرار تلك العادة من باب المباح عند عدم ظهور الأضرار، أما مع ظهور تلك الأضرار البالغة التى قد تصل إلى الموت بما قرره أهل الطب فى المراحل الثلاث الأخرى فيكون منعه حينئذ واجبًا، وحدوث تلك الأضرار قد يكون لاختلاف الزمان والغذاء والهواء، أو لغير ذلك من الأسباب، وقد تعامل المسلمون مع هذا الواقع الجديد بمنتهى الفهم الحضارى فى نظامهم القانونى والأخلاقى.
وبإلقاء نظرة إلى ذلك التطور القانونى والتشريعى فى مصر مثلًا فى هذه القضية نجد أن أوّل نص صدر فى مصر حول ختان الإناث هو القرار الوزارى رقم 74 لعام 1959. ويتضمّن هذا القرار فى مادته الأولى كشفًا بأسماء لجنة مكوّنة من خمسة عشر عضوًا من رجال الدين المسلمين وأهل الطب، من بينهم وكيل وزارة الصحّة مصطفى عبدالخالق، ومفتى الديار المصريّة حسن مأمون، ومفتى الديار المصريّة سابقًا حسنين محمّد مخلوف. وقد جاء فى المادّة الثانية أن تلك اللجنة قد قرّرت ما يلى:
أن يحرّم بتاتًا على غير الأطبّاء القيام بعمليّة الختان وأن يكون الختان جزئيًّا لا كليًّا لمن أراد.
منع عمليّة الختان بوحدات وزارة الصحّة لأسباب صحّية واجتماعيّة ونفسيّة.
غير مصرّح للدايات المرخّصات بالقيام بأى عمل جراحى، ومنها ختان الإناث.
الختان بالطريقة المتّبعة الآن له ضرر صحّى ونفسى على الإناث سواء قَبل الزواج أو بعده.
وعندما كثرت حالات الختان وتسببت فى تلك الأضرار البالغة بصحة الإناث؛ أصدر وزير الصحة المصرى قرارًا وزاريًّا بتاريخ 8/7/1996 القرار رقم 261 لسنة 1996 الذى يقول: «يحظر إجراء عمليّات الختان للإناث، سواء بالمستشفيات، أو العيادات العامّة، أو الخاصّة، ولا يسمح بإجرائها إلاّ فى الحالات المرضيّة فقط والتى يقرّها رئيس قسم أمراض النساء والولادة بالمستشفى وبناء على اقتراح الطبيب المعالج».
ولقد ظن بعض المسلمين ممن لم تتسع آفاقهم أن هذا القرار يعد مخالفاً للشريعة الإسلامية، وبالتالى حسبوه مخالفاً للدستور المصرى، فقاموا برفع دعوى قضائية لدى محكمة القضاء الإدارى، وذكرت المحكمة فى حيثيات حكمها ما نصه: «وخلصت محكمة القضاء الإدارى إلى أن المستفاد من استعراض الآراء الفقهيّة المتقدّمة: أن الشريعة الإسلاميّة لم تتضمّن حُكمًا فاصلاً أو نصًّا قطعيًّا يوجب ختان الإناث أو يحظره، ومن ثم فإن الأحكام التى وردت فى هذا الشأن كلّها ظنّية، وحيث إن الطب لم يُجمع أيضًا على رأى واحد، وإنّما ذهب البعض إلى أن ختان الإناث يحقّق مصلحة طبّية، بينما ذهب البعض الآخر إلى أنه يلحق بهن أشد الأضرار النفسيّة والطبّية، وحيث إن لولى الأمر أن ينظّم الأمور التى لم يرد فيها نص شرعى قطعى فى كتاب الله أو سُنّة رسوله ولم يرد فيها إجماع، وكذلك المسائل الخلافيّة التى لم يستقر فيها الفقه على رأى واحد.
وبصفة عامّة جميع المسائل التى يجوز فيها الاجتهاد، وأن مسلك ولى الأمر فى ذلك ليس مطلقًا، وإنّما يجب أن يكون مستهدفًا بتنظيمه تلك المسائل تحقيق مصلحة عامّة للناس أو رفع ضرر عنهم بما لا يناهض نصًّا شرعيًّا ولا يعاند حُكمًا قطعيًّا».
وجاء قرار محكمة القضاء الإدارى سنة 1997 بأنه: لا يمكن اعتبار قرار الوزير مخالفاً للدستور. و«طالما أن الختان عمل جراحى خلت أحكام الشريعة الإسلاميّة من حُكم يوجبه، فالأصل ألاّ يتم بغير قصد العلاج». «فالجراحة أيًّا كانت طبيعتها وجسامتها التى تجرى دون توافر سبب الإباحة بشروطه كاملة تعتبر فعلًا محرّمًا شرعًا وقانونًا التزامًا بالأصل العام الذى يقوم عليه حق الإنسان فى سلامة جسمه، وتجريم كل فعل لم يبحه المشرّع يؤدّى إلى المساس بهذه السلامة».
هذا بالنسبة لمصر، أما فى أغلب الدول الإسلامية الأخرى؛ فهى لا تختن النساء، كما هو الحال فى المملكة العربية السعودية مثلاً، ولعل هذا الرد الموجز على تلك الشبهة قد أزال اللبس، وصحح الفهم فى تلك القضية التى تستخدم للدعاية أكثر ما تستخدم للإنصاف، وعلى كل حال؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يَرِد أنه ختن بناته الكرام عليهن السلام.