x

أيمن الجندي الشقيق أيمن الجندي الأربعاء 13-06-2012 23:57


ما أبعد الشقة بين الأمس واليوم، بينه وبين نفسه يعترف أن البدايات لم تكن لتفضى قطّ لهذه النهايات، يذكر أيام الطفولة الأولى كحلم رائق جميل، هو وشقيقه الأصغر الذى يكبره بعام، فى روعة البدايات يكون للعام، بل للشهر الواحد، شأن خطير، يسبقه فى المشى، يسبقه فى الكلام، يعلّمه نزول الدرج، يعرف ألعاباً لا يعرفها هو، فلماذا لم تدم هذه الأيام؟

منذ دخوله المدرسة بدا لوالديه أن مستقبلاً غائماً ينتظره فى التعليم، صعوبة الفهم، نذر التعثر، العلامات السيئة وسخرية الأقران وعقوبات المعلمين، كان العالم ينقسم لقسمين: القسم السيئ يبدأ من دخوله المدرسة، بالنسبة إليه أشبه بالجحيم.

أخوه كان على النقيض تماماً، أبدى من البدء نجابة وذكاءً، أخوه الذى كان جحيمه وعذابه، لشد ما اختلطت مشاعر الحب والكره، والفخر والحسد، حتى أصبح يكره نفسه، مرات وجد نفسه يفكر أن الحياة ستصبح أفضل لو مات! كان يمكن للأمر أن يمر لولا رسوبه فى عام دراسى، ليلحق به أخوه ويصير ضحيته وجلاده، المعلمون يعايرونه به، التلاميذ يعايرونه به، الأبوان يعايرانه به، مقارنة منصوبة على الدوام تجعله فى عذاب.

التحق أخوه بكلية العلوم والتحق هو بمعهد متوسط، كالعادة سمع عن نبوغ أخيه، أما هو فرحب بالخلاص من سوط المقارنة الذى أدمى روحه لسنوات طويلة، انتهى من الدراسة بعد عامين فدلف إلى عالم التجارة بقوة وثقة، ومن خلال المكسب والخسارة تفتحت مواهبه فى التجارة، المكاسب تتراكم والنجاح يقوده إلى نجاح، واشتهر أنه حيثما يضع يده يتحول التراب إلى ذهب، فى ذلك الوقت كان أخوه قد صار معيداً بكلية العلوم، ثم سافر فى بعثة إلى الخارج ليعود بعد سنوات حاصلاً على الدكتوراه.

وانهمك فى الحياة لولا الأحلام اللعينة، كوابيس تزوره من آن لآخر، وقتها كان يعود طفلاً خائفاً لا يعرف الإجابة الصحيحة، والمعلم يقترب منه حاملاً عصاه، وفجأة يضحك أخوه ضحكة شيطانية، تتصل الضحكة حتى يستيقظ مبللا من العرق، وقد عاودته الذكريات، وعبثاً ما يحاول إقناع نفسه أنه قد صار تاجراً ناجحاً يخطب وده أكابر القوم، كلهم يتمنى رضاه.

خلال هذه السنوات، كانت الأيام قد نالت كثيراً من أخيه، راتب الجامعة لا يكفى الضروريات، وتخصصه لا مجال له فى العمل الخاص، حتى الإعارة لدولة خليجية منعته منها الإصابة بفيروس «سى»، كانت أحواله تسوء، والاهتمام بمكانته العلمية يتراجع، واكتشف - لدهشته الصادقة - أنه قد صار بالفعل أهم من أخيه، وحينما يجلسان مع كبار القوم فإنهم يتوجهون إليه - لا إلى أخيه - بالاهتمام!

ولفرط انغماسه فى نفسه لم يلاحظ صحة أخيه وهى تتدهور، لم يلاحظ شحوب وجهه وبروز بطنه وصفار عينيه، حتى جاء اليوم الذى سمع فيه الخبر: تقيأ أخوه دما فنقلوه إلى المستشفى.

وعلى فراش الموت راح يرنو إلى أخيه وكأنه يكتشفه لأول مرة، بعيداً عن مشاعر الغيرة المعقدة التى تزخر بها طفولته، شاحباً، مريضاً، فقيراً، لم يظفر بالتقدير الذى يستحقه، ولأول مرة تتمكن مشاعر الأخوة الصادقة من قلبه فيندفع نحوه فى عناق حار.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية