x

عاملات التراحيل يواجهن «كورونا» بـ«الصبر والاستدانة»

السبت 14-11-2020 18:53 | كتب: سحر المليجي, ولاء نبيل |
«خضرة» و«رايا» فى أحد الحقول «خضرة» و«رايا» فى أحد الحقول تصوير : إسلام فاروق

يقطعون المسافات طلباً للرزق، حتى وإن كلفهم ذلك حياتهن، تخرجن من أجل توفير الكاد، دون اتخاذ أي محاذير من الوباء العالمى، حاجتهم لجنيه واحد يكسبونه، بعد ساعات من العمل الشاق، تجعل «كورونا»مرضا لا داع للخوف منه فالفقر والحاجة أكثر خطورة منه..هن عاملات التراحيل، اللاتى التقت الجريدة عدد منهن بين الحقول، ترصد أعبائهن في مواجه متطلبات وضروريات الحياة.

في ضحوية احد الايام، التقينا اكبر عاملة تراحيل في مدينة طوخ بمحافظة القليوبية، والبالغ عمرها 65 عاما، والحاجة خضرة، 55 عاما، حيث خرجتا تحملان «منقرة صغيرة» على كتفهمها «لعزيق الجزر»، وجمع الحطب.

عيون خضراء،ترتدى جلبابا أخضر، وسط خضرة سيقان الجزر، وصفار حطب الارض، استقبلتنا «خضرة»، التي صبغت الشمس لون بشرتها، فحولته إلى اللون البرونزى الغامق، المحفور بعلامات الكبر، تشرح مع كل تجعيده فيه قصة كفاح، أكسبتها أعواما فوق عمرها، تحكى قصصا كثيرة قبل ان ينطق به لسانها.

بأيدى مشققة مثل الأرض التي طالما أرتوت بعرقها أمسكت الحاجة «خضرة محمد» بفأسها الصغير، تضرب الأرض بكامل طاقتها، لقطع الحشائش أو الذرة، وقطع أوضم القمح:«المهم أننا بنجيب جنيه حلال آخر اليوم»، هكذا تتحدث السيدة الخمسينية، التي يبدأ عملها مع شروق الشمس، وينتهى في الواحدة ظهراً، ولذا تُعرف فئتهم باسم «الضحاوية».

الترحال مهنة عرفتها «خضرة» منذ أنامل أظافرها، حين كانت تتدلى الضفائر على كتفيها، يترنحون مع جسدها النحيل، وهى تلهو وتمرح بين خيرات الأرض، ولم تكن تعلم أن تلك المهنة ستلازمها طيلة الحياة، فتقول «الترحال ده مهنة عمرى.. بشتغلها من ساعة ما طلعت على الدنيا».

مرت بـ«خضرة» عشرات السنين، ولا تزال تتنقل من بلد لآخرى، تذكر منها طوخ وبنها:«ورحت كمان النوبارية، قطعت فيها برتقال، وشلت بالقفص على رأسى».، لا يهم «خضرة» بعد المسافات التي تنتقل إليها ولكن :«أهم حاجة يكون في مواصلات تودينى وتجبنى».

تمتلك «خضرة» أسرة مكونة من ستة أبناء أيتام، تولت رعايتهم بعد وفاة زوجها منذ عشرون عاماً، يتوقف قوت «خضرة»، على إتصال هاتفى، تنتظره عشية كل مساء، من صاحب أرض، يطلبها للحضور باكراً للعمل في حقله.

ومن بضعة الجنيهات التي تحصل عليها استطاعت توفير احتياجات أبناءها، على الأقل الأساسية منها، وعلى رأسهم التعليم:«علشان ما يتعبوش في الدنيا زيى.. ولا يشوفوا اللى أنا شفته».

أوجاع وأمراض كثيرة، أُصيب بها «خضرة» خلال عملها، إلا أن كورونا، كان بالنسبة لها مرض قاسى، لم تستطع مناعتها مقاومته. أقعدها ولأول مرة في حياتها شهرا كاملا عن العمل :«15 يوم في المستشفى و15 يوم في البيت، ممنوعين تماماً من الاختلاط بحد، مكنش حد بيسأل عننا، غيرواحد ابن حلال، اتبرع لنا بوجبة الفطار والغدا، وكنا بنستلف علشان نجيب العلاج، لحد ما وصلت ديونى لـ20 ألف جنيه علاج بس».

رغم الحملات الإعلامية المحذرة من مخاطر كورونا، إلا أن «خضرة» لم يكن لديها خيار لتجنب التعرض للإصابة به، كانت تخرج للعمل كل يوم، وتقطع المسافات:«أصل أنا أرزقيه بكسب قوتى يوم بيوم».

حين شعرت بإرتفاع في درجة الحرارة توجهت للمستشفى، وأثبتت الفحوصات إصابتها بالمرض هي ووالدتها واثنان من أبناءها، وقتها سيطر على «خضرة» الشعور بأن النهاية قد إقتربت، ولم تكن تحمل هم ما فات من عمرها، دون أن تنعم في الحياة، ولكنها كانت تحمل عبء ما يتبقى عليها من إلتزامات تجاه أسرتها، لم يدب إليها الأمل من جديد سوى بعد إعلان الأطباء شفاء والدتها، الحاجة «حبيبة»، تلك السيدة المسنة، ذات الـ 90 ربيعاً، والتى تداولت وسائل الإعلام خبر خروجها متعافية من مستشفى قها، في حدث كان سابقة بين الحالات المتعافاه من الفيروس، لكبرسنها.

وعن رحلة الإصابة بكورونا، تقول ك«كورونا مجرد سبب للموت..لكن لكل واحد أجل» مؤكدة ان اكثر ما شغلها خلال تواجدها بالمستشفي، هو امها واولادها فكانت تدعى لهم بالشفاء بينما ترى ان حياتها «مش مهمة» .

لا تعلم خضرة سبب اصابتها ب«كورونا»، على الرغم من انها لم تلتزم بأيا من الاجراءات الوقائية، ولم تلزم بيتها يوما واحدا، لا هي ولا ابنتها، الامر الذي دفع امها في كثير من الأحيان للوقوف على طابور العيش، في انتظار عودة العاملين من عملهم، وتناول الافطار سويا.

وتضيف: بعد عودتى للبيت فوجئت بارتفاع درجة حراراتها، فتوجهت لاقرب صيدلية لشراء خافض حرارة، لكنه للأسف لم يات بنتيجة، بعدها بساعات اصبت بارتفاع حرارة شديد، ثم انتقلت العدوى لابنتى الصغيرة ايضا، ليتم نقلنا إلى حجرة واحدة بمستشفي «حميات طوخ» لتلقي العلاج.

لا تنسي خضرة، ان أولادها كانوا يأتون لها بالدواء يوميا بالمستشفي، إلى ان نفذ، ولم تتمكن من ارسال احد عمال المستشفى لشرائه، فهى لا تمتلك مالا أو تحمل موبايلا، وما كان من الطبيب المعالج لها، في اليوم الثاني، إلا ان اشترى لها دواءا من ماله الخاص.

لا تتمنى «خضرة» من الحياة سوى الستر، وأن تخضع لمنظومة تأمينة، تسد عنها احتياجاتها من علاج القلب والكبد والغضروف، الذي يجبرها على العمل في الحقول وهى رابطة لحزام الظهر.

لحظات من الصمت، لخصت فيه مشوار حياتها قائلة «الأرض جمعت لنا الحنية والقسوة.. الحنية لأنها لما بنتعب فيها بتدينا الجنيه بالحلال.. والقسوة لأنها ياما فنت ناس.. وخدت عافيتهم وصحتهم».

إلى جوراها شاركتها زميلتها رحلة الشقاء الحاجة «رايا» والشهيرة بـ«سمسم».
كانت الابتسامة التي بدأت الحديث بها، عنوان في حد ذاته لما لاقته في حياتها من عناء، فهى لا تمتلك سنة ولا ضرس، لكنها لا تزال تعمل، من أجل توفير متطلبات العمليات الجراحية، التي يحتاجها زوجها، «البروستاتا» و«الحصوة»: «اللى يقول لى تعالى أعملى حاجة بروح أعملها، أجمع جزر، بصل وقطن وذرة، أو ألم بطاطا ورا الباجور.

محاصيل كثيرة عملت «رايا» على جمعها، إلا ان القمح بالنسبة لها أصعبهم:«بيحتاج تربيط، وجرى وراء الدراسة والصحة ما عدتش مستحملة، ورغم تراجع قدرتها الصحية لكبر سنها إلا انها لا يمكنها الجلوس في المنزل :»لو قعدت آكل منين..؟«.

تحصل المرأة، في عملها بالضحوية، على 50 جنيه، في حين يحصل الرجل على الضعف، وأحيانا ما يجور صاحب الأرض على يومية المرأة، وينقص منها، حتى بعد إتفاقه على السعر :«ياما ناس كلت عرقنا.. بس هنعمل لهم إيه.. لما بيطلبنا تانى ما بنرحش له.. إلا إذا بعت الأجرة اللى عنده.. وهو وذمته.. أصلنا هنشد عليه إزاى.. وأحنا ما فيش في إيدينا حاجة».

وبإنكسار أنعكس على صوتها، تحكى موقفا قاسيا تعرضت له، «بالأمس، اشتغلنا عند مالك أرض، قرر يخفض أجرنا لـ40 جنيه، بعد 3 أيام شغل في الأرض، ومش عاوز يدفع الفلوس كاملة، شوفى بقى لما واحدة عندها 65 سنة تاخد آخراليوم 40 جنيه، يعملوا إيه لبيت مفتوح، ولما صمم مقبلناش على نفسنا، سبنا الاجرة ليه ومشينا وعوضنا على الله».

ومن يوميتها التي ضاعت عليها، إلى ارتفاع الاسعار، تحكى خضرة، فتؤكد ان العمل لم يعد يلبى أبسط احتياجاتها فكيلو الجبن بقى بـ20 جنيه، والسمن 100 جنيه : «بقينا نجيب الدهن نقلى بيه».

تقبض بيدهاعلى بعض التراب الذي جلست عليه، وقالت:«كل أما أبص للتراب أفتكر أن بخيره جوزت عيالى فأصبرعليه».

وعن تخوفها من العدوى بفيروس كورونا قالت:«العمر واحد والرب واحد، بس لما كنت أعرف أن حد عيان بتجنبه، لأنهم سمعت انها بتتنقل باللمس، وما أكدبش عليكم عمرى ما اشتريت جيل ولا كمامة، سمعت أنها بـ20 جنيه، أجيبهم منين..؟».

بعض أصحاب الأرض يمنحون الحاجة «رايا» غلة مع اليومية، تعتبرهم أهم من اليومية، حيث تنفق اليومية في ذات اليوم، أما الغلة فتظل في المنزل، لخبز العيش.
واختصرت مطالبها في أن يتولى أحد تكلفة عملية زوجها، وأن يكون لها معاش تنفق منه على أسرتها، خاصة أنها لم تعد تقدر على العمل في هذا السن.

حسين أبوصدام، نقيب الفلاحين يقول ان «عاملات التراحيل»، هن ركيزة الاقتصاد الزراعى، وعصب الزراعة، فالمرأة تمثل اكثر من50% في العمل الزراعى، بصفتها عاملة تراحيل أو مساعدة لزوجها أو مربية للثروة الداجنة، لافتا إلى أن هناك زراعات تعتمد عليها بنسبة 80%، مثل زراعات الطماطم والباذنجان والكوسة، بالاضافة إلى جنى المحاصيل مثل العنب والقطن، كما انها تساعد في بعض العمليات الزراعية مثل «التسميد والرش»، في مقابل العزوف عنها في بعض الزراعات الشاقة التي تحتاج إلى «العزق بالفأس».

وعلى الرغم من تأكيد أبوصدام، على وجود سيدات في مناصب قيادية بالنقابة في محافظتى الاسكندرية والغربية، إلا ان هناك عزوفا للاشتراك بالنقابة، الامر الذي يحرم عاملات التراحيل من الحصول على المعاش، أو التأمين العلاجى على الرغم من ان الاشتراك السنوى يبلغ 25 جنيها فقط.

ويضيف: لا تمثل نسبة المشتركات من العاملات في الاراضي الزراعية بالنقابة، سوى 20% من الاعضاء البلاغ عددهم 2700000 عضو، لافتا إلى ان ضعف مشاركة العاملات بالنقابة، إلى تفشي الأمية بين عاملات التراحيل، والسيطرة الذكورية، من الأب والأخ والزوج، والتى تمنع المرأة من معرفة حقوقها، فضلا عن العادات والتقاليد التي تمنعها من الخروج والتنقل والسفر وحدها إلا للعمل.

وأكد انه يصعب تقديم المشورة والتوعية إلى العاملات، حيث يحيل المجتمع الذكورى حصولهم على المعلومات، باعتبار هذا النوع من التوعية تدخلا في شئونهم العائلية.

واشار إلى ان عاملات التراحيل تحتاجن إلى رعاية من المجتمع ومن الاتحادات والنقابة، لانهن يعانين من اوضاع اقتصادية وصحية صعبة، مؤكدا ان العضوات يحصلن على معاش شهري، بعد سن ال65، يتراوح ما بين 300 إلى 400 جنيه، وفقا لسنوات العضوية، فضلا عن تأمين صحى، اما غير الأعضاء لا يحق لهم المطالبة ب«معاش».

وعن الهدمات المقدمة لغير العضوات، قال انه في حالة لجوء احدى العاملات إلى النقابة وتقديم شكوى أو طلب، يتم تقديم «تبرعات» رمزية لهن، موضحا ان اغلب الشكاوى التي تقدم للنقابة من العضوات، تكون عدم وجود فرص عمل، أو وجود «دين» عليهن، أو وجود مشاكل أسرية مثل منع الرجال لهن من الحصول على «تعليم» أو «تعليم بناتهن».


شاهد فيديو نساء «فى مهب الريح»

على الرابط التالى: من هنا

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية