ابتكر الإنسانُ الأعيادَ لخلق حال من الفرح والتآخى بين البشر الذين تأخذهم دواماتُ الحياة، فينسون حتمية التآزر لمواجهة صعاب الحياة. فى الأعياد نكسرُ الروتين اليومى المشحون بالتعب. نحاولُ أن نعلّم أطفالنا أن «الآخر» ليس عدوًّا، بل هو صديقٌ وأخ ومُعين، معه تسهُل المصاعبُ وتهونُ المحن. إن نجحنا فى هذا، فنحن آباءٌ وأمهاتٌ ممتازون، نمنحُ الحياةَ براعمَ جديدة تُزهر وتُشرق فى ظلمات الكون، وإن أخفقنا فإننا نزيدُ الكونَ إرهاقًا وعُسرًا بمنحه أجيالًا تتناحرُ وتتقاتل وتزيد العالم شقاء ودماء.
إن نجحنا فى تعليم أطفالنا أن «الآخر» صديقٌ وليس مصدر خطر وتهديد، سوف يكبر أطفالُنا ويصبحون رجالًا ونساءً قادرين على النهوض بمجتمعاتهم. بوسعهم قيادة العالم علميًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. أولئك الأطفالُ الذين تعلّموا فى أولى سنوات أعمارهم أن الاثنين أقوى من الواحد، وأن نجاحَ الإنسان لا يكون إلا بنجاح رفاقه، وليس برسوبهم، أطفالٌ أصحّاء، لم يخبئوا الكتاب فوق أرجلهم أثناء أداء الامتحان لينقلوا منه الإجابات «خلسةً»، ولا وضع التلميذ الحقيبة فوق البِنش بينه وبين زميله الجالس جواره حتى لا ينقل هذا الزميلُ من ورقة إجابته. أولًا لأنه يعرفُ أن زميله غيرُ غشاش، وثانيًا لأن إجابات أسئلة الامتحان ليست فى الكتاب المدرسى بل فى عقول الطلاب.
فى طفولتنا فى شهر رمضان الكريم، كنّا نحمل فوانيسنا مضاءةً شموعها، وندور نُحيّى سكّان عمارتنا، وكان أصدقاؤنا وجيراننا المسيحيون يحملون معنا الفوانيس ويغنّون مثلنا «وحوى يا وحوى»، مثلما نشاركهم فرحة عيد الميلاد بالملابس الجديدة ودهشة استقبال العام الجديد.
عيد الهالوين الغربى مرّ قبل أيام. أتذكرُ ليلة ذلك العيد وكنت بإحدى ولايات أمريكا منذ أعوام. كان القلقُ يساورنا، أنا وصديقتى المصرية الأمريكية لأننا نعلم أن أطفال الحىّ سوف يطرقون البابَ بعد برهة، ولم نستعدّ لهم بقطع الحلوى والشيكولاتة! تهاتف صديقتى زوجَها وتستحثّه على الإسراع بالحلوى وإلا نفّذ الأطفالُ «وعيدَهم» الطفولى المرح بعمل الخدع والشقاوات اللطيفة أمام باب البيت. فى ذلك العيد، يتنكّر الأطفالُ فى ملابس غريبة تتدرّج من أجنحة الفراشات الشفيفة، وحتى أسمال السَّحرة الأشرار، ويضعون الأقنعة التى تتدرّج من الملائكة حتى الشياطين، يتنقّلون من بيت إلى بيت من بيوت الحى، يطرقون الأبواب قائلين: Trick or Treat، أى: «هل ستعطوننا بعض الحلوى، أم نطلق عليكم ألاعيبنا وحِيلنا الماكرة؟»، حاملين أكياسًا فارغة من القماش وأوعية على شكل ثمرة «القرع»، وهو رمز هذا العيد، لكى يجمعوا فيها غنائمهم الحُلوة.
أصل العيد هو تزامن نهاية أكتوبر مع موعد الحصاد الأخير، وبداية فصل الشتاء الذى تكثر فيه المجاعات فى الأزمنة القديمة، وبالتالى يزيد عدد الموتى جوعًا. واعتقد الأيرلنديون القدامى أنه فى ذلك اليوم، يشفُّ الحاجزُ الفاصل بين عالم الأحياء وعالم الموتى، فتخرج أرواحُ الموتى من القبور وتجُول فى أمكنة معيشتها الأولى. لهذا يضع الأطفالُ أقنعة تعبر عن تلك الأرواح، طارقين الأبواب طالبين الحلوى، من أجل تكريم أولئك الذين قضوا نحبهم جوعًا.
ما يعنينى هنا هو حرص الأسرة الغربية على كتابة «الكود الإنسانى» لدى أطفالها. ينشأ الطفلُ وقد تعلّم أن الناس الذين لا يعرفهم خلف الأبواب ليسوا أعداء، بل أهلٌ وأصدقاء فى الإنسانية. يفتحون له الباب، يبتسمون فى وجهه، يمنحونه الحلوى، ويتمنون له عامًا طيبًا، فيكبر الطفلُ وقد اكتسب مناعةً طبيعية ضد أمراض تصيب بعض المجتمعات الرجعية مثل البغضاء والخوف من «الآخر».
قبل عقدين كتبتُ مقالًا عنوانه: (رُدّ لى ابتسامتى)، تساءلتُ فيه عن سرّ توجّسنا من «الآخر». فى الغرب، مستحيلٌ أن تلتقى عيناك بعينى شخص آخر فى الشارع دون أن يبتسم لك، ويومئ لك برأسه كتحية. شخصان غريبان لا يعرفُ أحدُهما الآخر، يسيران فوق كوكب الأرض، تصادَفَ أن التقت عيونهم للمرة الأولى، وربما الأخيرة، فى لحظة زمنية بعينها، فلِمَ لا يبتسمان لبعضهما البعض؟! أحبُّ هذه اللفتة الإنسانية كثيرًا. وأحاول تطبيقها، رغم أن بعض الناس لا يردون الابتسامة، بل ينظرون بتوجّس وقلق! حتى الأطفال، ملائكة الله على الأرض، أحيانًا لا يردّون الابتسامة! ربما لأن أهلهم علّموهم أن البشرَ ذئابٌ تخطفُ الصغار. أمرٌ محزن أننا لم نكتب «كود» أطفالنا على النحو الطيب الصحىّ.
كان الأطفال قديمًا يدورون فى شهر رمضان على البيوت قائلين «أعطونا العادة»، التى هى «العيدية». اختفى هذا الطقس الطيب، لتحلّ محله معانٍ تضرب الإنسانية فى مقتل. أرجو أن نُعيد كتابة كود أطفالنا على النحو الإنسانى السليم، ونُنشئهم على المحبة غير المشروطة، دون الخوف من إيذاء الآخر، علّهم يكبرون ويحبوّن العالم. «الدينُ لله والوطنُ لمَن يحنو على أطفال الوطن».