x

منى أبوسنة ويل للعالم إذا انحرف المتعلمون وتمهيص المثقفون منى أبوسنة الأحد 18-10-2020 01:17


عنوان هذا المقال يشير إلى حكمة فلسفية تنطوى على تحذير، قد يصل إلى حد التهديد، موجه إلى مجتمعات وثقافات كوكب الأرض على اختلافها وتنوعها، والذى أطلق هذه الحكمة التى تنطوى على التحذير والوعيد، هما الثنائى المبدع والمتميز كاتب القصة والسيناريست المفكر محمود أبوزيد، وشريكه فى الإبداع والرسالة الفكرية والثقافية المخرج المتميز على عبدالخالق، فى رائعتهما السينمائية فيلم «البيضة والحجر». وقد أبدع هذا الثنائى الفريد عدة أعمال سينمائية تعبر عن رسالتهما الفكرية والفنية القائمة على مفاهيم وأفكار فلسفية، وهو شىء نادر الوجود فى مجال السينما المصرية.

ويقف فيلم «البيضة والحجر» على قمة أعمالهما المشتركة، وسبب ذلك مردود إلى أن الفيلم يعالج القضية العمدة التى تمثل أزمة تسود فى مجتمعاتنا العربية على وجه العموم، وفى مجتمعنا المصرى على وجه الخصوص، وتنطوى الأزمة على إشكالية وهى غياب التفكير العقلانى المنطقى الناقد الذى يعبر عن لب القدرة على التفلسف- ولا أقول الفلسفة- عن الجماهير المصرية من جهة، وغلبة- بل سيادة- التفكير الخرافى اللاعقلانى الذى يحرض على الدجل والشعوذة وتعاطيهما كالماء والهواء.

فى مشهدين من أهم مشاهد الفيلم، يوجز الكاتب والمخرج قضية الفيلم المحورية. يجمع المشهد الأول بين بطل الفيلم الذى يعمل مدرساً للفلسفة فى إحد المدارس الثانوية الحكومية ويسكن سطوح أحد البيوت، وخادمة من ساكنى السطوح التى تعمل غسالة، بعد أن يخبرها أنه يحضر رسالة دكتوراه فى الفلسفة.

تسأل الجارة متصورةً أن الفلسفة عضو من أعضاء الجسم يحتاج إلى طبيب لمعالجته عندما يعطل: «هى الفلسفة ده فى أهنى مكان فى الجتة؟ يعنى لما الواحد فلسفته توجعه، الوجع ييجى فين فى الجتة؟»، ويجيبها المدرس بكل حسم ووضوح: «ييجى فى الدماغ عدل».


أما المشهد الثانى فيجمع بين المدرس وزميله، وهما يتنزهان فى حديقة. يعلن المدرس لزميله عن قراره المصيرى الآتى:

المدرس: «أنا نويت ألعب بالبيضة والحجر».

الزميل: «يعنى حتدجل؟».

المدرس: «ومين مش بيدجل؟».

الزميل: «بس الدجل ده له أصول أنت ما تعرفهاش».

المدرس: «اللى خلانى أعرف قواعد المنطق الرياضى ومبادئ الميتافيزيقا قادر يعرفنى على أصول الدجل».

الزميل: «يعنى حتشتغل بالشعوذة؟».

المدرس: «اسمها (الشعبذة)، كما قال ابن خلدون فى (المقدمة) يا جاهل».

ثم يُعرِّف المدرس لفظ الشعبذة وممارسة الدجل بأنهما «اللعب الذكى على أحلام ورغبات الناس»، ثم يضيف محذراً ومتوعداً المجتمع المنحرف الذى قرر أن ينتقم منه بعد أن نبذه لأنه صاحب مبادئ: «ويل للعالم إذا انحرف المتعلمون وتمهيص المثقفون»، ولفظ «تمهيص»، فى تقديرى، وهو من سك الكاتب، لفظ مصرى عامى شعبى يشير إلى حالة تحول شخص ما إلى «مهياص»، أو فى قول آخر «ألعوبان»، أى باختصار «نصاب».

ويبرر لنا أصحاب الفيلم أن هذا القول التحذيرى لبطل الفيلم من مدرس فلسفة جاد وملتزم وصاحب مبدأ فى الحياة، يقوم على فكرة التكيف مع المجتمع، وذلك بملاءمة متطلباته مع إمكانياته المادية، ويسمى ذلك المبدأ «أنا أحارب الغلاء بالاستغناء»، ويحرض التلاميذ على اتباع مبدئه. وبعد أن اتُّهِمَ بأنه يحرض التلاميذ على الفكر الشيوعى من جهة، والإرهاب ضد المجتمع من جهة أخرى، تم فصله من المدرسة. وكانت الظروف قد وضعت فى طريقه الغرفة التى يسكنها فوق السطوح، والتى كانت وكراً لدجال مشعوذ سيطر على سكان العمارة، فما كان من المدرس إلا اقتناص تلك الصدفة، وحل محل المشعوذ والدجال الجاهل مشعبذ وفيلسوف محنك.

وهنا يطرح الفيلم إشكالية تنطوى على تناقض، يمكن صياغته على النحو التالى:

من المسؤول عن تحول المثقف من دوره فى توعية عقل الجماهير إلى متلاعب ومستغل لوعيهم وفكرهم الخرافى الأسطورى، بهدف التسلط عليهم وسرقة أموالهم؟

إذا كان المجتمع هو المسؤول عن تحول المثقف الملتزم إلى مشعبذ أو مهياص، ففى هذه الحالة يبرأ المثقف «المتمهيص»، ويصبح مجنياً عليه من المجتمع المتخلف المنحرف، أما إذا كان الوضع خلاف ذلك، أى تحميل المثقف المسؤولية كاملةً بغض النظر عن مدى تأثير المجتمع عليه، فإن الأمر يصبح أكثر تعقيداً وخطورة، حيث إنه يجعلنا نتساءل بكثير من التوجس والشك الناقد عن هوية المثقف بوجه عام، والمثقف المتمهيص على وجه الخصوص.

وينبه الفيلم إلى ظاهرة ليست مصرية فحسب، ولكنها عالمية وتاريخية، فظاهرة المثقف النصاب التى تُعرف فى الفرنسية بـ«شارلاتان»، وفى الإنجليزية بلفظ «كواك»، قد انتشرت فى أوروبا منذ القرون الوسطى، ثم امتدت إلى أمريكا، ومازالت سائدة حتى اليوم.

وقد تجلت الظاهرة فى مجال العلاج من الأمراض بالأعشاب والطقوس الدينية، وجذور هذه الممارسات تعود إلى التراث الصينى فيما يُعرَف بـ«الشفاء بالإيمان»، وهو ما يُطلق عليه اليوم «الطب البديل»، والذى ساد العالم إلى الحد الذى أصدر معه الكونجرس الأمريكى قانوناً عام 1984، يُقنن الطب البديل، ويجعله مساوياً للطب الإكلينيكى، ووضعه فى إطار قانون التأمين الصحى، وبذلك تم تقنين «الشعبذة» عالمياً.

وغنى عن البيان أن ظاهرة «الشعبذة» التى رصدها ابن خلدون تشير إلى وجود تلك الظاهرة فى المجتمعات العربية، ومن بينها مصر، وأُضيف أنها مازالت موجودة إلى يومنا هذا فى الريف والمدينة على حد سواء. ويحلو للجماهير التى تتعاطى هذا الوهم المسمى «الطب البديل» أو «الشفاء بالإيمان» أو «الطب النبوى»... إلخ، أن تطلق على من يمارسه لقب «دكتور»، وذلك بهدف تثبيت الوهم، وتحويله إلى واقع فى أذهانهم، بيد أن امتداد ظاهرة «التمهيص» إلى مجالى الفكر والثقافة بما ينطويان عليه من وعى، أو بالأدق تزييف وعى الجماهير، عندئذ، يصبح الأمر بالغ الخطورة، لأنه يهدد عقل المجتمع بالأفول والانهيار، مما يؤدى إلى تدمير المجتمع برمته.

وقد سادت وانتشرت ظاهرة المثقف «المتمهيص» فى المجتمع المصرى حديثاً، منذ نهاية الخمسينيات، ومطلع الستينيات، وكان الهدف إفشال مشروع عبدالناصر لإعادة بناء وعى الجماهير، من أجل المشاركة فى بناء مجتمع جديد. وقد تبدت ظاهرة التمهيص حين روج أحد مشاهير المثقفين لقراءة الطالع والكشف عن المستقبل باستخدام «سَبَت» من أسبتة القمامة، وقد مارسه قطاع كبير من الأطفال والشباب من الذين يريدون معرفة طالعهم، وذلك بإحضار سَبَت صغير وربط قلم رصاص فى أسفله، ثم يمسك أحدهم بالسَبَت، ويسأل سؤالاً عن مستقبله، وبعد دقيقة يتحرك السَبَت، ويكتب القلم الإجابة. وقد تطور هذا النوع من الدجل فيما بعد ذلك فيما يُعرَف بلعبة «ويجا»، أما فى مصر فقد شاع وذاع صيت هذا المثقف المتمهيص الذى أثبت بدجله أنه قادر على السيطرة على عقل المجتمع.

وبعد ذلك، تطورت ظاهرة المثقف المتمهيص، فيما سُمى «التنمية البشرية»، وقد وصل نجاح رائد تلك المدرسة إلى أن يكون معبود الجماهير، خاصةً جماهير الشباب. وكان إبداع هذا المتمهيص يكمن فى أنه نجح فى أن يمزج الدين بعلم النفس المزيف، وقد أكد ذلك من جديد على ضحالة عقل الجمهور المتلقى والمتعاطى للوهم والشعوذة، على الرغم من أن جمهور شباب القرن الواحد والعشرين من المفترض أنه متعلم وعلى وعى بما يدور حوله.

ثم ظهر «متمهيص» آخر وأعاد إلى الأذهان ظاهرة «العلم والإيمان» التى سادت فى الستينيات من القرن العشرين على يد نجم وأسطورة جماهيرية، وهذه المرة أطلق على إبداعه «الإعجاز القرآنى»، وتعاطت الجماهير الوهم، وصمت من يُسمون «النخبة المثقفة».

ومازالت الأزمة قائمة، ومن المتوقع أن تستمر طويلاً، وذلك بفضل تخلف المجتمع الذى رفض فى نهاية فيلم «البيضة والحجر» تصديق اعتراف المثقف المتمهيص بأنه دجال، وأصر على احترامه وتبجيله، خوفاً على زوال الوهم الذى بدونه لا يمكن أن يستمر فى الحياة.

خلاصة القول: إذا كانت حالة المثقف المتمهيص تمثل ظاهرة عالمية تشير إلى انحراف المثقف عن مساره الأصيل وخيانته لدوره فى إيقاظ الجماهير من سباتهم الخرافى، وذلك بتغييب وعيهم بإغراقهم فى مزيد من الخرافات، ففى هذه الحالة ينطبق المثل الشائع على ذلك المثقف (حاميها حراميها).

ويبقى السؤال المهم: هل ستظل الجماهير تغط فى سباتها الخرافى وتتعاطى الدجل والشعوذة إلى الأبد؟

وأختم بعبارة أوجهها للجماهير، نساءً ورجالاً، وهى عبارة الفيلسوف الجماهيرى الشهير «سقراط» الذى كان يمشى فى الأسواق بهدف توعية الجماهير وحثهم على إعمال عقلهم الناقد، وتدريبهم على قواعد التفلسف، والعبارة هى على النحو التالى: «إن الحياة التى لا تخضع للفحص ليست جديرة بأن تُعاش».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية