x

د. ياسر عبد العزيز كيف صُممت مقدرات أمننا القومى؟ د. ياسر عبد العزيز الأحد 11-10-2020 00:32


يظل العام 2011 تاريخاً مفصلياً فيما يخص الحالة الوطنية من وجوه عديدة، ليس لأنه فقط العام الذى اندلعت فيه انتفاضة يناير وما ترتب عليها من تغيرات حادة وأحداث جسام نعاين دروسها، ونعيش تداعياتها، ونقاسى تكلفتها حتى اليوم، ولكن أيضاً لأن الصيغة التى اعتمدنا عليها فى بناء مقدرات أمننا القومى انكشفت فى هذا التاريخ، وأظهرت عجزاً عن مجاراة الشروط والتحديات الراهنة.

لقد تم تصميم مقدرات أمننا القومى السارية حتى اليوم وفق شروط أملاها عصر وَلَّى، ورغم اتساع مفهوم مقدرات الأمن القومى لدولة مثل مصر ليشمل الكثير من الجوانب المعقدة والمركبة والفريدة فى آن، فيمكننا الاكتفاء بذكر عدد من المرتكزات البارزة فى هذا الإطار لجعل الأمر أكثر بساطة.

يمكن الولوج إلى محاولة تحليل مفهوم الأمن القومى فى مصر من باب التهديدات الظاهرة والكامنة، إذ تنطوى تلك التهديدات بطبيعتها على ضرورة استنفار استجابة وطنية، وفى تلك الاستجابة ستبرز العوامل التى اعتمدنا عليها فى بناء قدرات المواجهة، وهى بالضبط مقدرات أمننا القومى.

منذ اندلعت ثورة يوليو منتصف القرن الماضى، بات لدينا جيش وطنى يحظى بالتقدير والاعتبار، ومن بين ما اتفقنا عليه فى تأمين هذه المكانة المستحقة بعض وسائل الحماية الصارمة لصورة المؤسسة العسكرية التى يجب ألا تمس أو تُجرح.

وبموازاة ذلك كان لدينا شرطة قادرة ونافذة، تقوم بدورها فى تأمين الجبهة الداخلية، من دون إمكانية أن تتعرض لاختبارات قاسية، وحتى عندما اندلعت الاحتجاجات الغاضبة فى 1977 و1986 ونهاية العقد الأخير من حكم الرئيس مبارك، كانت الشرطة، وفى خلفية دورها قدرات الجيش، كافية لضمان صيانة الأمن القومى ومنع الانفلات.

ولسنوات عديدة، كان لدينا درجة من درجات التنافس السياسى المُدار بعناية، وهياكل سياسية، ومجتمع مدنى ناشط وعريض، وقدرة على رفع المطالب، وطرح المظالم، وتفكيك حالات الاحتقان عبر بعض الوسائل السياسية.

لم تكن الصناديق حاكمة فى اختيار المنصب الأرفع ولا الحقائب السيادية، وظلت رئاسة الدولة بمنأى عن المنافسة أو التناول المسىء أو محاولة هز الاعتبار لعقود طويلة، وفى غضون ذلك وفرت الدولة مظلة من الأمان المجتمعى، عبر سياسات دعم سخية، أبقت الطبقات المهمشة والفقيرة ضمن حدود آمنة نسبياً.

كانت السيادة الوطنية قادرة على بسط هيمنتها على المشهد الاتصالى، وعبر سياسات تأميم المجال الإعلامى، وضبط الرسائل، لم يكن هناك قدر كاف من الانفلات الذى يمثل تهديداً خطيراً.

فى 2011، تغيرت قواعد اللعبة تماماً، إذ سقطت القدرة على التحكم فى المجال الاتصالى للدولة، ولم تعد هناك سيادة وطنية كاملة عليه، كما برز تهديد جديد لقوتنا الصلبة التى صُمم إطار كفاءتها لمواجهة تهديدات تقليدية تمثلها دول معلومة الهوية، وظهرت تهديدات الحرب اللامتماثلة، التى تضافرت فيها قدرات تنظيمات أقل من الدولة، وجماعات إرهابية، ودول وأجهزة استخبارات، مكنتها التطورات الاتصالية من النفاذ إلى عمق الدولة والإضرار بأمنها.

ولأن الدولة بعد 30 يونيو، اختارت طريق الإصلاح الصعب، ومن بين أدواته ترشيد الإنفاق، ومراجعة أوجه الدعم، فى ظل أزمة اقتصادية عميقة، فقد وجدت القوى المعادية ثغرة واسعة للنفاذ إلى وعى الجمهور، والمتاجرة بمعاناته، والمبالغة، والاصطناع، وصولاً إلى التثوير والتحريض.

لم تعد مقدرات الأمن القومى محمية من محاولات زعزعة الاعتبار، ولم يعد التحريض والشحن صعباً، ولم تسعف الوسائط السياسية نوايا الاحتواء المطلوب، ولم يعد فى الساحة سوى صوت الإعلام الوطنى، الذى تسحبه هجمات الإعلام المعادى إلى ممارسات مرتبكة.

نحن نعرف عدونا، ونعاين أثر استهدافه، لكن وسائلنا مازالت غير ناجعة، والحل يبدأ بتشخيص مقدرات أمننا القومى من جديد فى ظل التطورات الراهنة، وهو موضوع مقال مقبل بإذن الله.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية