x

بسمة العوفي النوم على العشب بسمة العوفي السبت 03-10-2020 01:49


تجلس الجميلة جوليا روبرتس على الأرض، تحدق فيما حولها، وتتذكر كلمات الرجل الإيطالي الذي أخبرها عن عدم قدرتها على الاستمتاع بسبب أسلوب الحياة والركض المتواصل وراء الجزرة المعلقة فوق رأسها. وعرّفها على مصطلح ”دولشا فار نياتي«والذي يعني (فن عمل اللاشيء). تفكر فيه جوليا كأميركية تلهث في حلقة الحياة مثل الهامستر، وتكتشف لأول مرة، متعة عمل ”اللاشيء“.

تذكرت هذا المشهد من فيلم ”طعام صلاة حب“ عندما رأيت طفلًا يجلس مع أمه في إحدى الحدائق، وضع متعلقاته وألعابه إلى جوار أمه، ثم تمدد على العشب ونام. كنت أجلس على بعد خطوات منهما بمفردي، في الحديقة المطلة على نهر البوتوميك في واشنطن، وكان يومًا سيئًا لي، وكعادتي، أحاول أن أترك الضيق في مكان ما قبل أن أعود للمنزل، فذهبت للمشي في الحديقة. لا أعرف ما خطر في بالي في تلك اللحظة، ولكني قلت لنفسي، لماذا لا أفعل ما فعله الطفل؟ لماذا لا أنام على العشب وأقلّد جوليا روبرتس وأفعل ”اللاشيء“؟

طبعًا هذه فكرة مجنونة لشخص مثلي، على قدر بساطتها، إلا أني لم أفعلها أبدًا من قبل. لم يكن هناك حدائق في المنطقة التي عشت فيها في مصر. وليس أمرًا سهلًا أن تذهب إلى حديقة لأن الأمر يتطلب إجازة من العمل وتجهيز وتخطيط وسندوتشات وميكروباصات ومكوك فضائي لكي نذهب يومًا إلى ”الجنينة“ دون حتى أن نشبّك أيدينا كما تقول الأغنية. وشعرت بالسعادة عندما رأيت المساحات الخضراء في أميركا ووفرة الحدائق وتنوعها وكبرها، وأصبحت زبونة دائمة للأخضر بكل أنواعه وأماكنه، ولكن طوال أكثر من عامين، لم تخطر لي أبدًا فكرة النوم على العشب.

كنت قد رأيت امرأة تفعلها من قبل في إحدى حدائق إسبانيا، ذهبت السيدة إلى أكثر منطقة مشمسة في الحديقة ووضعت حقيبتها وجعلت منها وسادة، ونامت. اعتقدت أنها سائحة مثلي وليس معها ثمن المبيت في غرفة فندق، أو ربما محرومة من الشمس في بلادها. كانت فكرتي عن النوم على العشب في حديقة أنها مجرد تصرف ”استثنائي“ لا يفعله الناس عادة، إلا إذا كانوا متعبين أو مشردين، لا يفعله الناس العاديين الأصحاء للاستمتاع فقط، أو لفعل ”اللا شيء“.

ومع بداية ”كورونا“، رأيت الكثير من الأميركان من جيراني وأصدقائي، ينصبون الكراسي ويدقّون الشماسي ولكن ليس على البلاج مثلما غنّى عبدالحليم حافظ، ولكن في الساحة الخلفية للمنزل، أو في الحدائق الصغيرة في الأحياء، أو أمام بيوتهم. يضعون الكراسي والطاولات الصغيرة، ومظلة المصيف الكبيرة، ويأتون بالمثلجات والأطعمة، ويجلسون في الخارج. وبسبب إغلاق حمامات السباحة والشواطئ لفترة كبيرة، استبدلها الناس بالنوم على العشب. نعم، رأيت رجلًا يرتدي ملابس سباحة، يحمل كتابًا ونظارة شمسية ومظلّة ومشروب، وذهب إلى منطقة مشمسة في الحديقة، ونام في الشمس، وكان ينقصه فقط بائع فريسكا لكي يكتمل المصيف.

مع الوقت، لم أعد أستغرب النوم على العشب كفكرة، ولكني ما زلت لا أفهم قيمتها ولا لما يفعلها الناس. لذلك عندما رأيت هذا الطفل يفعل ذلك ببساطة، لا أعرف ما خطر ببالي، ولكني أردت التجربة. حاولت العودة بظهري قليلًا إلى الوراء، قليلًا فقليلًا حتى لمست العشب، شعرت بالبرودة والنعومة تتسرب إلى عمودي الفقري. ولكن القلق دفعني للنظر يمينًا ويسارًا، وقمت فجأة. لم أر أي شيء، لم يتغيّر شيئًا في العالم. كانت الحديقة خالية من البشر إلا من الطفل وأمه. ولكن قلقي الفطري هو ما دفعني للنهوض، ولكي أتغلب عليه، فعلتها ثانية.

هذه المرة دفعت ظهري بالتدريج إلى الخلف، وعندما لامست العشب، قلت لنفسي سأعد حتى ٢٠. إذا حدث أي شيء سأنهض فورًا. ماذا لو اتسخت ملابسي؟ ماذا لو تحرّش بي شخص؟ ماذا لو سُرقت متعلقاتي؟ ماذا لو دهسني أحد المارة المستهبلين؟ ماذا لو نمت في مكاني طويلًا حتى حل الظلام ولم أستطع العودة للمنزل؟ كنت أحمل الكثير من المخاوف الوهمية، التي فكرت فيها أثناء العدّ من ١ لـ ٢٠، نهضت، واكتشفت أنه لم يحدث أي شيء.

تنفست، وعدت بظهري بالتدريج مرة أخرى. وتركت برودة العشب تدغدغ ظهري، ثم جاءت آشعة الشمس كغطاء خفيف دافئ جعل النوم ألذّ مع برودة العشب. أغمضت عيناي، وحاولت التخلص من مخاوفي وأفكاري، وقلت في نفسي، سأفعل ما فعله الطفل، سأفقد الاتصال بكل شيء لثوان، سأفعل الـ ”دولشا فار نياتي“ أو “Disconnecting” أو ”أفْصِل“ كما نقول بالعامية المصرية. سأنام كأني في حماية شخص ما، أترك همومي معه لدقائق، أستمتع فيها باللا شيء، ثم آخذها وأعود لعالمي الطبيعي.

تركت متعلقاتي جانبًا، وقلت في نفسي ”تخيلي أنك جوليا روبرتس لثواني، وافعلي اللاشيء مثلها“، وبدأت فعلا بالتدريج، أحاول التركيز على اللحظة الحالية، أو كما يقول علم النفس، التركيز على ”هنا والآن“، تنفست بعمق، وشعرت بالتعب يخرج من جسدي للأرض، وفي كل مرة أتنفس بعمق، أشعر بطاقة ما تخرج من جسدي، تعب، أو إرهاق، أو فكرة سيئة، وأتخيلها تتسرب إلى الأرض تحتي، وتذهب إلى الأعماق. تتفكك عظامي ويسترخي جسدي. أتنفس، فيتحول الغضب إلى هدوء، أتنفس، فيتحول الحزن إلى رضا، أتنفس، فيتحول التعب إلى راحة. لا أعرف لماذا دمعت عيناي وأنا أتخيل الأرض حضنًا عملاقًا من التراب، كأني عدت لموطني الذي خُلقت منه، واستقبلني بضمّة رطبة وحانية، أنستني كل شيء.

لا أعرف كم مضى من الوقت، أنا متأكدة أنها دقائق لأني نظرت للساعة قبل قليل. ولكنها مرّت كامرأة تمشي على استحياء. ليست كهذه الدقائق والساعات والأيام التي لا نشعر بمرورها لأننا نركض وكل شيء يركض حولنا. ولكن شعرت بنعمة الوقت وعظمتها، وبالـ ٦٠ ثانية في الدقيقة، وبالـ ٦٠ احتمال والـ ٦٠ فرصة التي نحصل عليها في كل دقيقة. وبكم الراحة أو العناء الذي يتغيّر فينا في كل لحظة.
هذا هو السر إذًا. لهذا ينام الناس على العشب، لهذا الحضن المجاني من أمنّا الأرض، الذي يبطئ ساعاتنا المتهورة، ويعيد ترتيب دقاتها بالشكل المنتظم.

منذ هذا اليوم يا صديقي، أصبح النوم على العشب من عاداتي المفضلة. أختار مكانًا خاليًا في الحديقة، مشمسًا وهادئًا، وأخطف بعض الدقائق. أدفن همومي، وأحصل على مساج ربّاني من العشب، وأتأمل زرقة السماء وبياض سحبها، وأتنفس. لا لشيء إلا لفعل ”اللاشيء“، الذي اكتشفت أنه فعل عظيم في حد ذاته، أن ”تَفْصِل“ وتنفصل عن العالم قليلًا، قبل أن تعود للركض وراء الجزرة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية