x

بسمة العوفي نصف ليمونة بسمة العوفي السبت 26-09-2020 07:17


كنت في ميناء واشنطن حيث سوق السمك الأشهر والأكبر فيها، وشممت رائحة الأسماك المطبوخة فشعرت بالجوع، وطلبت وجبة، وجلست أراقب الطباخ وهو يحضرها. يُخرِج الأسماك الطازجة من البحر، ينظفها، يضعها في دقيق، ثم في زيت ساخن على النار. اعتقدت أنه نسي خطوة، ولكنه كرر نفسه العملية مع أسماك مختلفة، وجهزها مع بعض الخبز والبطاطس المقلية، ثم أعطاني وجبتي.

كزبونة سابقة عند «زكي السماك» و«قدورة» و«بلبع» وكل محلات وأسواق الأسماك في مصر، استغربت ما حدث. أين التوابل يا رجل؟ أين الليمون المتدحرج بين السمكة والأخرى؟ أين الثوم؟ أين الكمون؟ أين السلطة؟ أين مياه السلطة؟ أين الشوربة؟ طب ارمي نصف ليمونة على السمك! طب رشة ملح! انتي بتهرّجي يا أمريكا!

على قدر تفاهة الأمر، ولكن هذه الواقعة كانت ضمن سلسلة وقائع شكّلت علاقتي بالطعام في أميركا. فمنذ جئت إلى هنا وأنا أبحث عن طعم أحبه وأشعر معه بالألفة والراحة. وبالتأكيد لا يمكنك الاستغناء عن الملوخية أو الطواجن بالبرجر أو الدجاج المقلي، هذه مقارنة يرفضها العقل والمنطق أصلًا.

في الشهور الأولى في أمريكا، عانيت من اختلاف المذاق. وهو أمر حساس وحيوي، لأن كثير من المغتربين يعتادون على مذاق طعام بلادهم، ولا يجدونه بسهولة في البلاد الجديدة، حتى وإن عثروا على نفس المكونات. ذلك لأن بلد الصناعة نفسها مختلفة، ولأن كل منطقة لها محاصيلها وطرقها في صناعة الغذاء، لذلك يشعر بعض المغتربين بالضيق في الفترة الأولى، ولا يريدون الحديث عن ذلك لأنه يبدو كأمر تافه. ويكتمون في الأعماق افتقادهم لأكلهم المفضل، ويشعرون بالحنين إلى الوطن، ولكنه في الحقيقة حنين إلى طواجن الوطن، وفطير مشلتت الوطن، ورز معمر الوطن. استغرق الأمر مني بضعة أشهر حتى وجدت الطعم الذي أحبه، وتعلمت أين أجده وكيف أصنعه.

ينقسم الطعام في أميركا بالنسبة لي إلى ٣ أشياء، الأكل الأمريكي الذي يشتهر بالبيتزا وقطع اللحم الضخمة «ستيك»، والمشاوي المقدمة مع صلصلة «الباربكيو»، والدجاج المقلي، والبرجر وغيرها. ثم الأكل العربي والمصري، ثم المطبخ العالمي الذي ينتشر في كل الأنحاء، من ياباني وصيني ومكسيكي وتايلاندي وهندي وفيتنامي وغيرها من البلدان، ويتضمن أكلات مثل السوشي والنودلز والبوريتو والتاكو وآلو تيكي والباييا وخلافه. أحترم التنوع والتجديد في الطعام ما لم يكن غريبًا أو مقززًا (كأكل الضفادع والحشرات مثلًا). أحب تجربة كل المذاقات ومعرفة طرق الشعوب في طبخ نفس الأشياء بمكونات مختلفة، ولكن بالطبع يظل الأقرب إلى قلبي ومعدتي هو الأكل المصري.

يختلف الأكل الأميركي عن المصري في التوابل والدسم والكميات وطرق الصناعة. وبالطبع يضع الأميركان بعض التوابل في طعامهم، ولكن في أغلب الوقت يقتصر الأمر على الملح والفلفل الأسود، وربما بعض الكاتشب أو المايونيز. وكان الطعم الأقوى الذي جربته حتى الآن هي خلطة توابل Old Bay التي تقدم عادة مع الأسماك والكابوريا والبطاطس في بعض المناطق. أما بخصوص الكميات فهي ضخمة جدًا بالنسبة لما نعرفه في مصر. بإمكانك أن تتخيل مثلًا أن كوب البيبسي العادي في أحد المطاعم السريعة يساوي زجاجة بيبسي عائلية في مصر.

أتذكر صدمتي عندما رأيت أول علبة زبادي هنا، وكانت في حجم عبوة ٢ كيلو جرام من السمن في مصر، وهذه أصغر واحدة في السوبرماركت. وعندما سألت صديق عن الأمر، قال إن الأمريكان غالبًا ما يشترون كميات كبيرة للعائلة، وكلما اشتريت كميات أكبر، كان السعر أقل، وكان المجمل أكثر توفيرًا مقارنة بالعبوات الفردية، لذلك توجد متاجر كبرى للجملة، ولذلك يوجد أيضًا هدر كبير للطعام، بسبب كبر الكميات وقلة سعرها. أما العبوات الفردية التي يستخدمها الأشخاص مثلي، فتسمى «الحجم الأوروبي»، وهو الحجم المعتاد في مصر.

بخلاف التوابل والأحجام، هناك أيضًا فارق كبير في طرق الطهي. اكتشفت ذلك عندما طبخت لأصدقائي طاجن بامية باللحم. أحبوه كثيرًا وناموا في أماكنهم، لأن أجسادهم لا تعرف معنى الطعام «المِسَبِّك»، والأشياء التي تُطهى على النار لساعات طويلة، أو الطبخات الكثيرة التي تكون طبقًا واحدًا مثل الكشري. أو مفهوم إنك «تحبس» بعد الأكل بكوب من الشاي بالنعناع أو أنك تحتاج لـ «حاجة حرشة» كالمخللات جنب الأكل. ولكن على الرغم من الاختلافات بين المطابخ، إلا أنني أدركت أننا نحب الأطعمة نفسها بوصفات مختلفة. فكما نحب «الفراخ البانيه» يحبون «الفرايد تشيكن»، وكما نحب «المكرونة بالبشاميل» يحبون «الماك آند تشيز»، ولكن كما قال هاني رمزي في فيلم «محامي خلع»: «فيه فرق في السرعات سيدي الرئيس».

اختلاف المذاق وتجربة الأكلات الجديدة هي جزء مهم في السفر والعيش في الخارج. ومع الوقت، تعلمت أن أبحث عن الطعام الطبيعي، غير المعدّل وراثيًا أو المضاف إليه أي هرمونات أو مكسبات طعم، وهي أطعمة موجودة بكثرة في الأسواق هنا. وبالطبع أذهب لللتسوق من المحال العربية التي تستورد بعض الأشياء من الشرق الأوسط. ويدرك الأميركان التنوع في مجتمعهم واحتياجات المهاجرين، لذلك تجد في أغلب المتاجر الأميركية الكبرى، الممرات والأرفف المخصصة لمنتجات كل دولة ومنطقة.

أدركت أن علاقتي بالأكل أمر ثقافي مرتبط بهويتي وذاكرتي قبل معدتي. وأحاول طول الوقت أن أتبع الطرق التقليدية والمكونات الأصلية كتراث أحافظ عليه وأنقله للآخرين. أحب أن أطبخ الطعام المصري لأصدقائي الأجانب وأعرفهم عليه، وأحب طبخه لأصدقائي المصريين لنتذكر شيئا من طعم الوطن. وأحب تجربة مطابخ بلدان العالم، ومعرفة ما وراء الأكلات وكيف نشأت، والمذاقات التي تفضلها الشعوب، وما تمثله لهم. وعندما تخطر مصر على بالي، تأتي مصحوبة برائحة المانجو التي تملأ الشارع، وطعم الفراولة الطازجة، وطشّة الملوخية التي تعبق العمارة، ورائحة الخبز الطازج من الفرن في الصباح الباكر، والمشاوي على الفحم. لذلك يا صديقي، غدًا في الصباح وأنت تأكل سندوتشات الفول والطعمية على عربية الفول، أرجوك، تذكرني، وابعت لي سندوتش.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية