على وقع الدمار؛ لا يزال السودانيون يلملمون ما تبقى من ممتلكاتهم بجهود ذاتية، في محاولة لانتشال أمل للعيش، وسط دمار خلفته الفيضانات التي ابتلعت قرى وأحياء بأكملها.
أوضاع المنكوبين في مخيمات الإيواء- التي أقامتها هيئة الدفاع المدني السودانية بإمكانات محدودة أو حتى بجهود أهلية- تنذر بأن نحو نصف مليون أسرة سودانية يقفون على حافة هاوية في حال لم يتم الإسراع في إجراءات إغاثتهم.
فعقب عشرة أيام لا يزال السودانيون يعانون تحت هجير الشمس والأتربة نهارًا، ولسعات البعوض والأمطار الغزيرة ليلًا، في مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة
وفقًا لتقديرات غير رسمية؛ تقدر الخسائر الأولية للفيضانات بنحو ملياري دولار أمريكي؛ إذ نقلت وكالة الأنباء السودانية (سونا) تصريحات وزيرة العمل والتنمية الاجتماعية، لينا الشيخ، بشأن فقدان حوالي نصف مليون أسرة سودانية كل ممتلكاتها بين منازل وثروات زراعية أو حيوانية وداجنة، بعدما أضرت الفيضانات والسيول بـ 16 ولاية من بين 18 ولاية سودانية.
ابتلعت الفيضانات سبع ولايات هي (ولاية سنار، ولاية النيل الأزرق، ولاية النيل الأبيض، ولاية الجزيرة، ولاية نهر النيل، ولاية الشمالية وولاية الخرطوم)، وكان لولاية الخرطوم نصيب الأسد من الدمار، نظرًا لكثافتها السكانية، وازدياد المنازل المبنية على ضفاف النيل بها، فيما أضرت السيول والأمطار الغزيرة عشر ولايات أخرى، ما أدى إلى سقوط 100 ألف منزلًا، فضلًا عن انهيار البني التحتية من طرق كباري ومدارس، ومرافق حكومية.
«المصري اليوم» تعيش بعضًا من مشاهد من داخل مخيمات إيواء المنكوبين ورواياتهم، يقابلها آراء حول مدى صمود الاقتصاد السوداني أمام هذا الكم من الدمار...
مخيمات غير مؤهلة
تحكي جواهر الوسيلة، إحدى سكان ريفي الجيلي، الواقعة على ضفاف النيل شمال الخرطوم أن أهالي تلك القرية، ظلوا يواجهون ارتفاع مناسيب المياه بأجولة التراب التي دشنوا منها سدودًا يدوية لحجز المياه لمدة ثمانية أيام قبل أن يبتلع الفيضان قريتهم صباح الأحد، وأنهم عانوا أسبوعا كاملًا ظلوا خلاله يقسمون أنفسهم في دوريات أهلية على مدار اليوم، لمقاومة ارتفاع مناسيب المياه لكنهم لم يصمدوا أمامها جراء ضعف إمكاناتهم وغياب البنى التحتية، وتجاهل استغاثتهم.
فقدت جواهر منزلها كبقية سكان القرية الذين نجح بعضهم في انتشال قطعة أثاث علها تؤويه في العراء، أو ماشية تعينه على ما هو قادم، فيما خرج معظمهم صفر اليدين، ولا يدري أحدهم إلى متى يستمر ذلك الوضع.
ولا تزال محاولات الأسر لانتشال ما تبقى من أثاث منزلهم بالقوارب أو بعربات جلبها لهم متطوعون مستمرة بجهود ذاتية بمعزل عن أي آليات تنظيمية من قبل الدولة، وهو ما تراه جواهر نتاج 30 عامًا من الفساد وانهيار البني التحتية وسياسات الإفقار التي خلفها نظام البشير البائد، على حد تعبيرها.
تشيد جواهر بحالة التكافل التي يعيشها المنكوبين، لكنها تخشي استمرارهم في العراء لمدد طويلة، لكونها «غير متفائلة بتقديم الدولة أية تعويضات نظرًا للأزمة الاقتصادية التي يعيشها السودان».
ويصف الحاج هشام عبدالله، وهو مزارع يبلغ من العمر 52 عامًا، فقد منزله وغرقت مزرعته وماشيته، معاناة الأهالي داخل المخيمات التي دشنتها هيئة الدفاع المدني بمنطقة الظلط، على بعد حوالي 2 كيلومتر من ضفاف النيل على مشارف قرية التمانيات، إذ يشكو وضع المخيمات غير المؤهلة وغير المزودة بالكهرباء فضلًا عن خلوها من دورات المياه، وعدم وجود مياه صالحة للشرب، فهم يعانون تحت هجير الشمس والأتربة نهارًا، فيما يتجرعون لسعات البعوض وتغمرهم الأمطار ليلًا.
ويشكو أيضًا تكدس الأسر داخل المخيمات التي لم تستوعب أعداد المنكوبين الهائلة؛ إذ تتكدس حوالي أربع إلى خمس أسر داخل كل مخيم، مؤكدًا أن محاولات الأسر للتكافل الغذائي لم تمكنهم من الصمود كثيرًا أمام هذا الوضع.
الوضع ينذر بكارثة صحية
فيما تخشى، زينب مبارك على الزاكي، 36 عامًا، على أطفالها الثلاثة من استمرار الأمطار الغزيرة فوق المخيمات؛ إذ لم تمهلهم السيول ليلتقطوا أنفاسهم في العراء، لذا تناشد الدولة لتوفير مأوى عاجل للمنكوبين قبيل وقوع كارثة صحية بالمخيمات في ظل غياب الخدمات وعدم توافر دورات مياه، ومياه صالحة للشرب.
أما سارة فائزفتحكي عن معاناة كبار السن في ظل غياب الإمدادات الطبية، لا سيما أصحاب الأمراض المزمنة كضغط الدم والسكري، مشيرة لاستحالة تحمل الوضع ليًلا في ظل التكدس، ولدغات الحشرات، فيما تؤكد أن مخيم التمانيات شهد حوالي أربعين حالة لدغ عقارب، وتنذر من وقوع كارثة صحية في ظل هذه البيئة الحاضنة للأوبئة.
وفق وزارتي المياه والري والداخلية السودانيتين جاوزت معدلات الفيضانات والأمطار للعام 2020 الأرقام القياسية التي سبق وشهدها السودان على مدار أكثر من قرن؛ إذ قالت وزارة المياه والري، إن منسوب النيل الأزرق ارتفع إلى 17.57 متر (57 قدماً)، وهو «مستوى تاريخي منذ بدء رصد النهر في عام 1902»، كما توقعت استمرار مؤشرات الارتفاع.
حال منكوبي ولاية سنار، الواقعة وسط السودان على الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق، ربما يكون الأسوأ؛ إذ يمر بالولاية 3 أنهار هي النيل الأزرق ونهر رهد ونهر الدندر، جميعهم في حالة فيضان، وهو ما أدى لانعزال حي العشرة والحي الشرقي تمامًا، وتشريد 4864 أسرة بعدما سقطت منازلهم.
ووفقًا لياسر محمود، أحد منكوبي سنار، دشن الأهالي مخيمات بجهود ذاتية، بحي النيل بمنطقة أبوحجار عززتها قوات الدفاع المدني فيما بعد، لافتًا لعدم كفاية تلك المخيمات لاستيعاب الأسر المنكوبة، ما أدى إلى لجوء بقية الأسر إلى تحويل المدارس إلى مراكز إيواء.
فيما أكد استحالة تحمل الشيوخ والأطفال لسوء الأوضاع في كل من مخيمات ومدارس سنار، في ظل غياب الخدمات وانقطاع التيار الكهربي، وعدم كفاية المساعدات الإيوائية والغذائية للأسر، فضلًا عن غياب أي إمدادات طبية.
مناطق خارج نطاق المساعدات
بعض الأماكن لم تصلها أية مساعدات بعد؛ إذ تؤكد الطبيبة سمية عبدالمحمود، أن منطقة السرواب، الواقعة شمال أم درمان لم يصلها أية مساعدات إيوائية أو غذائية، رغم الدمار الذي التهم معظم منازلها، مشيرًا إلى أن أهالي حي الكواهلة يستضيفون جيرانهم ممن سقطت منازلهم، وأنهم جميعًا مدركون لأن الكارثة أكبر من قدرة السودان على استيعابها.
وأشارت عبدالمحمود، أن أهالي السرواب أعدوا بجهود أهلية، خطة إسكان بديل في مناطق تبعد عن ضفاف النيل على مقربة من السرواب، لكن تلك المناطق خالية من الخدمات كالكهرباء والمياه، لذا فهم بصدد توحيه استغاثات للجهات المسؤولة لتزويد تلك المناطق بالخدمات الأساسية، غير أنهم لم يتلقوا أي ردود بعد.
احتواء الكارثة
ويتوقع الخبير الاقتصادي السوداني، أبوالقاسم إبراهيم، أن الدمار الذي خلفته الفيضانات سيدفع السودان إلى كارثة غذائية، لاسيما عقب ابتلاع الفيضانات معظم أماكن تمركز الانتاج الزراعي بالسودان وفقدانها حوالي 20% من المساحات المزروعة، فضلًا عن نفوق آلاف الماشية والأغنام.
وأضاف أن القدرات الاقتصادية للحكومة السودانية لن تمكنها من احتواء تلك الكارثة منفردة، إذ يصعب على الاقتصاد السوداني المتأزم إعادة بناء مئات الألاف من المنازل التي تهدمت بشكل كامل أو جزئي، ناهيك عن عدم قدرتها على تلبية الاحتياجات الإغاثية العاجلة كالمخيمات والغذاء والمستلزمات الطبية.
ويؤكد الدكتور عصام الزين، الخبير الاقتصادي وعميد كلية الاقتصاد بجامعة المشرق، أن الوضع الاقتصادي يتجه بقوة نحو الانهيار الشامل؛ فالإجراءات السياسات المالية والنقدية التي اتبعتها الحكومة والتي أدت إلى استمرار تدهور قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية في طريقها للتزايد، إذ يتوقع ارتفاعًا تصاعديا في أسعار السلع والخدمات تؤدي إلى مزيد من أضعفت قدرة المواطنين على توفير احتياجاتهم الأساسية، ما يدفع بنحو نصف الشعب السوداني إلى المجاعة.
ويعاني نحو 48% من السودانيين من الفقر قبيل جائحة كورونا وقبيل اجتياح الفيضانات، إذ دخلت السودان منذ مطلع العام الجاري مرحلة التضخم الجامح؛ إذ بلغ في مايو 114% وفي يونيو 136.39 وفي يوليو146%، وهي أحد أعلى معدلات التضخم بالعالم، كما أشارت تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 9 مليون سوداني مهددون بالمجاعة المحققة، وهو عدد أصبح مرشح للزيادة في ظل هذا الدمار.
ويتوقع خبراء الاقتصاد السودانيون أن الاقتصاد السوداني مقبل على مرحلة انفلات غير مسبوق، أعلن فيصل محمد صالح، وزير الإعلام، أن الكارثة تفوق قدرة الحكومة السودانية، التي سخرت كل وزارتها لإغاثة المنكوبين، وأن السودان بحاجة ملحة وعاجلة لمستلزمات إيواء ومساعدات غذائية.