أحد التحولات الاستراتيجية التى يشهدها العالم حاليا هو غياب الدور القيادى الذى كانت تلعبه الولايات المتحدة على المسرح الدولى، وأدى ذلك الى حالة من الفراغ فى العديد من مناطق العالم، ومنها منطقة البحر المتوسط، ومن ثم وجدنا بعض دول المنطقة تسعى لملء هذا الفراغ، وارتبط بهذا الامر أيضا ما يطلق عليه التحول من العولمة الى الإقليمية، بمعنى أن كل إقليم أصبح له تفاعلاته الخاصة، والتى تتم بدرجة من الاستقلالية عن أى توجهات كونية او تأثير للقوى الكبرى.
هذه التحولات أدت من ناحية إلى زيادة عدم الاستقرار فى العديد من مناطق العالم، ولكنها تتيح أيضا فرصة لتطوير نظام إقليمى للسلام فى بعض المناطق بعيدا عن تدخلات القوى الكبرى.
فى هذا الإطار يمكن فهم دعوة الرئيس الفرنسى ماكرون منذ أيام قليلة لإنشاء ما يسمى السلام المتوسطى أو Pax Mediterrana والمقصود بذلك إنشاء نظام إقليمى للتعاون فى منطقة البحر المتوسط يضم الدول المطلة عليه، سواء فى الشمال أو الجنوب، الدعوة خرجت من ماكرون فى إطار قمة دول الاتحاد الأوروبى المتوسطية السبع وهى قبرص وفرنسا واليونان وإيطاليا ومالطا والبرتغال وإسبانيا، وهو منتدى غير رسمى لدول جنوب الاتحاد الأوروبى، وعقد بجزيرة كورسيكا منذ أيام قليلة.
القمة أكدت على الأهمية الاستراتيجية للحوار بين الدول المتوسطية بعد ٢٥ عامًا من إطلاق عملية برشلونة وأكثر من عشر سنوات بعد إنشاء الاتحاد من أجل المتوسط ، واقترحت القمة إعطاء دفعة جديدة لسياسة أوروبية شاملة فى البحر الأبيض المتوسط، واقترحت تجديد الشراكة بين دول الاتحاد الاوربى ودول جنوب المتوسط. وأكد بيان القمة على أن انعدام الأمن فى منطقة الساحل والصحراء له تأثير مباشر على الوضع الأمنى فى البحر الأبيض المتوسط ، ويجب إيلاء اهتمام خاص لهذه المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر والتهريب.
العقبة الرئيسية التى تقف أمام هذه الأفكار الأوروبية والمبادرة الفرنسية هى الموقف التركى، وافتقاد أوروبا لموقف موحد فى مواجهته، ففى حين يندد إيمانويل ماكرون بالأفعال التركية فى شرق البحر المتوسط ، وذكر أمام القمة الأخيرة أن الأوربيين يجب «أن يكونوا حازمين مع حكومة أردوغان، التى لها سلوك غير مقبول وعليها توضيح نواياها». وأضاف «تركيا لم تعد شريكا فى المنطقة». وأعرب بيان قمة السبع عن أسفه لأن تركيا لم تستجب للنداءات المتكررة من الاتحاد الأوروبى لإنهاء أنشطتها الأحادية الجانب وغير القانونية فى شرق البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة.
فى المقابل نجد ألمانيا - التى تضم عددًا كبيرًا من السكان من أصل تركى – وتخشى أزمة مهاجرين جديدة إذا فتحت أنقرة الأبواب لهؤلاء للدخول إلى أوروبا، وبالتالى تحاول التوسط بين اليونان وتركيا، وتتبنى فكرة تعزيز الاتحاد الجمركى بين تركيا والاتحاد الأوروبى لتهدئة الأوضاع معها. وفى حين يتوافق موقف اليونان وقبرص مع فرنسا، تتبنى إسبانيا وإيطاليا موقفا حذرا، وتخشى أن يؤدى التشدد مع تركيا إلى جعل الأمور أسوأ بدلاً من حلها.
باختصار، تشهد منطقة البحر المتوسط تطورات متلاحقة، والمبادرة الفرنسية لإنشاء «سلام متوسطى» هى علامة متميزة فى هذه التطورات، ومن المهم أن يكون لدول جنوب المتوسط وعلى رأسها مصر أفكار تتماشى مع هذه التطورات، والشراكة المصرية مع فرنسا فى إطار مبادرة السلام المتوسطى قد تكون خطوة هامة فى هذا الطريق.