x

فاطمة ناعوت سيدنى.. وتعويذة الفراعنة فاطمة ناعوت الإثنين 23-09-2013 01:28


أكتبُ إليكم بعد 26 ساعة من الطيران عكس الزمن. «العودة للى كان، رغم أنف الزمان»، هكذا أسمى تلك الرحلات المشاكسة من الغرب للشرق. فقد تترك وطنك الخميس، فتصل البلد الآخر الأربعاء. لأنك تشاغبُ الشمسَ فتطير عكس رحلتها على أرضنا: من الشرق إلى الغرب، وتشاكسُ الأرضَ فتدور عكس دورانها حول نفسها وحول الشمس. فكأنما تودّ أن تُربك لوحة «الليل والنهار: فتوقفُ الزمن، ثم تقتحمُ الماضى. كل ما سبق افتراضىٌّ طبعًا، لأن لعبة الزمن والمكان نسبية. فنحن شرقٌ بالنسبة لـ نيويورك الأمريكية، فنسبقُها عشرَ ساعات، ونحن غربٌ بالنسبة لـ سيدنى الأسترالية، فتسبقنا ثمانى ساعات.

على أننى حين قلت رحلة: «العودة للى كان»، لم أكن أعنى مشاكسة عقارب الساعة وفقط. بل أتحدّث عن «الغيرة» التى تضربنى كلما زرتُ مدينة نظيفة وهادئة، سواء فى أوروبا العجوز، أو فى أمريكا وأستراليا الطفلتين. أقول لنفسى ولمَن معى: «كانت عاصمةُ بلادى أجملَ من هذه المدينة، وأنظف!» فيبتسم مَن أحادثه قائلاً: «!sure».

القاهرةُ، قبل نصف قرن، كانت مثل سيدنى التى أكتب إليكم منها الآن: أشجارٌ خضراء زاهية، زهورٌ ملونة، شوارعُ تشعُّ نظافة ونظامًا. سيداتٌ أنيقات، بفساتين جميلة وكعوب عالية يسرن كسهام مارقة لا تعرف الميوعة ولا الكسل. وفوق كل هذا معجمٌ نظيف رفيع على الألسن، لا يعرف الزلل ولا الركاكة. ونظراتٌ نظيفةٌ راقية فى العيون، لا تعرف اختراقَ حرمة الآخر وتلويث مجاله البصرى، والسمعىّ، والروحى.

أين ذهبت قاهرتنا الجميلة تلك؟ «أخدها الوبا»، كما أخذ «هنادى»، مع كروان طه حسين؟ وباء التعليم الركيك! وباء ضياع ثقافة الجمال! حتى لم تعد تزعج عيونَنا أطنانُ القمامة! ولم تعد تجرح آذانَنا أطنانُ البذاءة والسباب! وباء انهيار المنظومة الخُلقية لتحلَّ محلَّها شكلانيةٌ دينية زائفة تتستر وراء حجاب وجلباب، بينما القلبُ غير عامر بالفضيلة والرحمة والتُّقى ومحبة الله؟

كيف سمحنا لقاهرتنا أن تتبهدل وتترهل وتتدثر بأثمال القبح، بعدما كانت سيدة العالم فى الأناقة والثقافة والتحضر والحُسن؟! هل نستعيد، بعد ثورة يونيو، جوهرَ الجمال والتحضّر، لنمدّ أيادينا ننتشل الساحرة الرشيقة (قاهرة الأربعينيات والخمسينيات) من بين طيّات شحوم تلك البدينة القبيحة التى ابتلعتها (قاهرة اليوم)؟

أسير الآن فى شارع جورج المزدحم، ويتردد فى قاع سمعى: Take me back to Cairo، Beside the river Nile، بصوت الحنجرة الاستثنائية: سمير الإسكندرانى. لماذا نتوقُ لمصرَ، ولم نلبث نفارقها؟ إنه لغز الأوطان الذى لا يُفضُّ. إنها مصرُ التى تأسرنا إلى شرنقتها بخيوط الحرير، مهما شرّقنا أو غرّبنا. إنها تعويذة الفراعنة.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية