كان الفنان الجميل محمود رضا مضطرًا لأن يسافر إلى أصقاع مختلفة فى البلاد لكى يجمع رقصات شعبية تعكس ثقافات وطنية متباينة، كما كان الشاعر المُبدع عبدالرحمن الأبنودى مضطرًا لأن يسافر إلى أعماق الصعيد لكى يجمع أشعارًا وحكايات وجدت رواجًا فى مجتمعات محلية، لكنها لم تجد طريقًا إلى جمهور الحواضر، وإلى سجل الثقافة العمومية. لقد كانت تلك هى الطريقة الناجعة لجمع عناصر ثقافية، وتوثيقها، وإحيائها، وكأنها محاولة لإعادة اكتشاف الوجدان العمومى، استنادًا إلى مكوناته المتناثرة الأصيلة.
ظل هذا يحدث منذ منتصف القرن الـ19، حين برز الاهتمام بمصطلح «الثقافة الشعبية» Popular Culture، وحتى نهايات القرن العشرين، حين ازدهرت ثورة التقنية والمعلومات، وتمكنت من الهيمنة على المجال الاتصالى، وغيّرت آلياته.
يبقى مصطلح «الثقافة الشعبية» عَصِيًّا على التعريف الجامع المانع، وهو أمر يرجع إلى غناه وتنوعه بأكثر مما يُرد إلى قصور فى عمل المُنظرين، ومع ذلك فإن معناه قد لا يخرج عن مُجمع الموروث السردى، والفلكلور، والحكايات، والرقصات، وطقوس الاحتفال والحزن، والأمثال الشعبية، والأقوال المأثورة، والأفكار الشائعة، والصور والرسومات، والأشعار الشعبية الرائجة.
لا تعبر «الثقافة الشعبية» السائدة فى مجتمع ما عن تاريخه وتنوعه وثرائه الفنى فقط، لكنها أيضًا توضح درجة تماسكه، وتعكس القيم السائدة فيه، وتبلور نظرته إلى ذاته والعالم، وتكشف عن عواره واختلالاته المجتمعية، وهى فى تباينها مع «الثقافة النخبوية»، أو مع الثقافة التى تتبناها «السلطة الاستراتيجية» عبر تحكمها فى آليات الإنتاج والتوزيع العمومية، إنما تكشف عن حجم الهوة الثقافية فى المجتمع، وقد تشير إلى أدوار مطلوبة ومُلِحّة فى مجال الإصلاح الثقافى.
من جانبى، سأقول إن مواقع التواصل الاجتماعى، وفى مقدمتها «يوتيوب» و«تيك توك»، باتت ديوان «الثقافة الشعبية» السائدة، ولو كانت هذه المواقع فعّالة ورائجة فى منتصف القرن الفائت، لما اضطر «رضا» و«الأبنودى» للسفر إلى أعماق البلاد لجمع مفرداتها بغرض حفظها وإحيائها.
يلفت الباحث المختص فى هذا المجال، جون ستورى، فى كتابه «النظرية الثقافية والثقافة الشعبية»، أنظارنا إلى أن تلك الثقافة ذات طابع تجارى، وأنها تُنتج بكميات كبيرة، بغرض الاستهلاك الشامل، بواسطة مجموعات واسعة من المنتجين غير المُحدَّدين بالضرورة، ولأنها كذلك، فإن أثرها يكون واسعًا وفاعلًا وله قدرة على الاستدامة. وإلى أن تنتبه آليات البحث الموثوقة إلى تواجد هذا المنجم وقدراته الواسعة على رصد مكونات تلك الثقافة وتصنيفها وتحليلها، سأعرض بعض ما وجدته ظاهرًا ولافتًا على تلك المواقع فى ذلك الصدد.
من بين ما وجدته من عناصر لتلك الثقافة السائدة عبر هذه الوسائط، سواء فى أغانى «المهرجانات»، أو فى فيديوهات «المؤثرين الجدد»، أو فى أنماط الاحتفال الشعبية، خصوصًا فى الأقاليم والأحياء العشوائية، غياب واضح للوحدة الموضوعية، وشيوع لعدم الاتساق، وتهشُّم مُزْرٍ للغة بلهجاتها المختلفة، وإصرار على السجع المُتكلف والقوافى المصطنعة، ودرجة من الإباحية مقلقة وغير مُسوَّغة، ونبرات استعلاء وتجبُّر، ونزعة للتمييز، وفردانية تكره الجماعة وتشيطنها، وازدراء عميق لـ«الآخر».. أى «آخر»، وميل واضح للصدام واستخدام لغة العنف.
سيقول نقاد إن بقاء هذه الساحة حرة مع كل مشكلاتها أفضل من إخضاعها للسلطة الثقافية الاستراتيجية بكل ما نعرفه عن قصورها، وسأختلف معهم، لأن الاستسلام لهذا الدفق العارم المأفون سيعمق تشوهات تلك الثقافة، وسيجلب أخطارًا وخيمة على المجتمع.
والحل طبعًا لن يأتى عبر القيود والتقاضى، لكنه سيأتى عبر جهد منظم مدروس، يصوب مسار هذه الثقافة، ويأخذها إلى دور نحتاجه وصورة تشبه الصورة التى نستحق أن نكون عليها.