«أسير على غير هدى وبلا هدف، ولكن صادفتنى مفاجأة لم تخطر لى فى خاطرى، فصرت كلما وضعت قدمى فى شارع انقلب الشارع سيركا، اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة، وحلت محل ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرجة وحبالها الممدودة والمدلاة وأراجيحها وأقفاص حيواناتها والممثلين والمبتكرين والرياضيين حتى البلياتشو، ولشد ما دهشت وسررت وكدت أطير من الفرح، ولكن بالانتقال من شارع إلى شارع وبتكرار المعجزة مضى السرور يفتر والضجر يزحف حتى ضقت بالمشى والرؤية وتاقت نفسى للرجوع إلى مسكنى، ولكم فرحت حين لاح لى وجه الدنيا وآمنت بمجىء الفرح. وفتحت الباب فإذا بالبلياتشو يستقبلنى مقهقها».
يا له من عظيم ورائع؛ لا أفقد شغفى أبدا بقراءة الأستاذ «نجيب محفوظ»، أعود إلى كتاباته من حين لآخر، أرى أنه الروائى الأهم فى العالم العربى، بل والعالم، والأكثر غزارة فى الإنتاج الأدبى، وتنوعا ورحابة وبهاء ومتعة..
الأستاذ «نجيب محفوظ»، عميد الرواية العربية، ليس مثل أى روائى، فهو الوحيد الذى يقف فى برزخ الأدب والفلسفة، وهو ما جعل لأدبه ثقلا وقيمة.. فهو خريج الجامعة المصرية، قسم فلسفة، وقد بدأ شاعرا، لكنه توجه إلى كتابة الرواية، وقد تنوعت الرواية عنده بين الواقعية والتاريخية والفلسفية، أما آخر ما ترك لنا فى خزينة الأدب من ثروة، فكان «أحلام فترة النقاهة»، وهو عبارة عن (نصوص، أحلام، وشذرات من أحلام، أضيف إليها أحلام متخيلة)، والأستاذ، سواء فى هذا الكتاب أو فى «أصداء السيرة الذاتية»، لم يلزم نفسه بحدود نوع أدبى واحد، هى نصوص مفتوحة الأفق..
نحن أمام حكاء بدرجة فيلسوف، وأديب متأمل وحكيم، خبر الحياة بمحبة وعمق، فمنحته عصارتها، هو الجوهر، هو حصاد العمر فى جملة قصيرة، بموهبة كبيرة، قدم أفكاره ورؤيته للحياة، فى نصوص مركزة ومكثفة، تنم عن فلسفة الحياة العميقة وليس التفلسف التنظيرى السطحى!
حقا فى البدء كانت الفلسفة، فما من أديب كبير، إلا وهو دارس للفلسفة.
وأتصور أن هناك جوانب كثيرة لم تعرف ولم تكتشف بعد فى عالم «نجيب محفوظ» لشدة ثرائه الإنسانى والأدبى معا..
أحب أن أعود إلى قراءة كتابات «نجيب محفوظ» بمتعة كبيرة لأتعلم وأستمتع معا، فالأستاذ «نجيب محفوظ» كالذهب كلما مر الزمن، زاد لمعانا وألقا وجمالا..