عندما كتب المفكر الفرنسى «جان جاك روسو» كتابًا تحت عنوان «العقد الاجتماعى»، اختلف معه المفكر الفرنسى «فولتير» اختلافًا بيّنًا ولم تعجبه بعض الآراء، ومع ذلك قال له: «إنى أختلف معك في كل كلمة تقولها، ولكننى على أتم استعداد لأن أضحى بحياتى كلها حتى تملك الحرية وتقول ما تريد»!!. هذا ما قاله فولتير لروسو منذ قرون خلت، فعلى الرغم من اختلافه الشديد معه إلا أنه لم يهاجمه، ولم يحاول أن يقصف قلمه، أو يمنع كتابه، ولم يجبره على التراجع أو الاعتذار عمّا كتب، ولم يقدم فيه بلاغًا، ولم يتهمه بالخيانة الوطنية أو التكفير الدينى.
بين الحين والآخر أتذكر ما قاله فولتير لروسو، ولاسيما عندما تصدر من البعض اتهامات بالخيانة الوطنية أو التكفير الدينى ضد شخص أو جماعة بسبب مقال أو رأى أو بوست أو تويتة أو مقطع فيديو.
كل كاتب أو باحث يصيب ويخطئ، فليس هناك كاتب يدوّن نصوصًا سماوية مقدسة، لذا فمن حق أي أحد أن يختلف مع أي كاتب ومع آرائه، ومن حق أي أحد أن يفند أي مقال ويدحض أي فكرة بغض النظر عن مكان ومكانة قائلها أو كاتبها، فالرأى لا يُواجه إلا بالرأى، والحجة لا تُقارع إلا بالحجة، والفكر لا يُرد عليه إلا بالفكر، أما أن يُواجه الفكر والرأى ببلاغ بتهمة الخيانة الوطنية أو التكفير الدينى، فهذا ما لا يمكن قبوله في مجتمع ديمقراطى حداثى.
إن الحق في حرية الرأى والتعبير حق أصيل من حقوق الإنسان، وقد نص الدستور المصرى على هذا الحق في المادة (65) والتى تنص على أن «حرية الفكر والرأى مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر»، والقوى لا يخشى الرأى، ولا يخاف فكرًا أو فلسفة، وإنما الضعيف هو الذي يحارب الفكر بالسيف، والعلم بالمدفع، والريشة بالسجن.
قال يوسف إدريس ذات مرة: «إن الحرية المتاحة في العالم العربى كله لا تكفى كاتبًا واحدًا لممارسة إبداعه بشكل كامل، بعيدًا عن القيود المتعددة التي يفرضها على الكتابة، الاستبداد السياسى، والتصلب الفكرى، والجمود الاجتماعى، والتعصب الدينى». وعندما ننظر إلى ما يحدث اليوم، نلاحظ أن هناك بعض القيود المفروضة على حرية التفكير والتعبير، الأمر الذي يؤثر في النهاية تأثيرًا سلبيًا على حرية الفكر والإبداع.
إننا مع حرية التفكير والتعبير، وإننا نشجع النقد البناء من خلال الطرق القانونية المشروعة، «فلولا النقاد لهلك الناس، وطغى الباطل على الحق، ولامتطى الأرذال ظهر الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجّال»، كما قال الشاعر بيرم التونسى، فالدفاع عن النقد إنما هو دفاع عن الفكر والرأى وعن حرية التعبير عنهما، ذلك أن هذه الحرية ذات مكانة عميقة في حياة الآدمى، وهى من أهم عوامل الخلق والإبداع والتطور والتنمية لديه، ولكن في يقينى أنه ليس من حق أحد أن يعتبر نفسه وصيًا على فكر أو أخلاق أي أحد، كما أنه ليس من حق أي جماعة أن تتوهم أنها حارسة المعبدأو حامية الوطن، ومن ثم تُعطى لنفسها الحق في أن تكفّر الآخرين أو تتهمهم بالخيانة الوطنية، إن الديمقراطية الحقيقية هي التي تسمح بنشر أي رأى، وهى التي تسمح أيضًا بدحض وتفنيد أي فكرة، فمتى يا ترى سيأتى اليوم الذي تؤمن فيه مجتمعاتنا العربية بما قاله فولتير لروسو؟!.