x

«الدهّابة».. 15 يوما من «العزلة» بحثا عن «كنوز الأرض»

الأحد 08-07-2012 19:36 | كتب: أشرف جمال |
تصوير : أشرف جمال

فى الليل، ومع زئير مولدات الكهرباء كما الأسد حتى الفجر، يمكث الدهّابة ملثمين بأقنعة تقيهم شر الرمال والأتربة التى يعيشون بينها أكثر من 15 يوماً فى الشهر، معزولين عن حياة البشر، ليقضوا الوقت فى لعب الورق واحتساء الجَبَنة «القهوة» والشاى، يتهامسون فيما بينهم تحت النجوم المتلألئة التى تفترش ثوب السماء فى مشهد يجبرك على العصف الذهنى، بل يغيبك عن الواقع، الذى سعيت للتمسك به عبر حوار فتحته مع بعض الشباب عن أسباب لجوئهم إلى تلك المهنة الخطرة.

محمد محجوب، حاصل على بكالوريوس فى العلوم، وأمضى عامين بحثاً عن وظيفة مستقرة فلم يجدها، يقول: «إن صديقاً لى توجه إلى مناجم الذهب وعندما عاد استطاع أن يكمل نصف دينه، واشترى لنفسه سيارة دفع رباعى، وأنا بدورى أريد أن أتزوج وأن أقتنى ما اقتناه، بعد أن فشلت حظوظى فى الحصول على وظيفة، رغم أننى قدمت طلبات للالتحاق بوظيفة أكثر من تسعين مرة منذ تخرجى، وأجريت أكثر من ثلاثين مقابلة شخصية دون جدوى».

ويقول الصادق طه: «جمعت أنا وأصدقائى مبلغاً قوامه ثلاثة آلاف دولار أمريكى، حصلنا عليه عن طريق الاستدانة أو من بيع حلى ومجوهرات أمهاتنا وأخواتنا، ثم استأجرنا جهازاً للكشف عن المعادن واستعنا بخدمات رجل اشتهر بأنه على دراية بكيفية العثور على الثروات الدفينة أو الكنز المدفون».

فيما يقول شاب آخر يدعى «وليد»: «حضرت من الخرطوم لتغيير وضعى المالى وتحسين المستوى المعيشى لى ولأفراد أسرتى، وحتى أستطيع تكوين نفسى بصورة سريعة حسبما سمعت، لكنى وجدت الحياة ليست صعبة كما تخيلتها، فكل شىء متوفر عدا وسائل الاتصال، وحتى الآن العائد بسيط لكن الحمد لله».

ويقول «أحمد» من الخرطوم: «أرغب فى إكمال دراستى الجامعية بعد أن أغلقت فى وجهى أبواب العمل دون مؤهل، ولذلك قررت أن أعتبرها رحلة جميلة إن لم تحقق أهدافى، لكن أملى كبير فى أن أجد قطعة ذهب تزن 10 كيلوجرامات، حتى يكون نصيبى كبيراً».

ويلتقط «محمد» أطراف الحوار قائلاً: «أنا من بربر وخرجت عدة مرات مع مجموعات أخرى وكان العائد مجزياً، وتبقت لى بعض الاحتياجات لإكمال مراسم زواجى، ولذلك عدت إلى هنا، ولاسيما بعد أن وعدت خطيبتى بغنيمة كبيرة من الذهب فى هذه المرة، وآمل أن تتحق أمنيتى حتى أوفى بوعدى».

عبّر شباب يعملون بالتنقيب عن سعادتهم بحصولهم على جرامات بدّلت حياتهم من الفقر إلى الثراء، بيد أن هناك البعض فقدوا أرواحهم وأصيب عدد كبير منهم بالأمراض، إذ إن العمل فى التنقيب يتم عادة بصورة بدائية أولية، أكثرها حداثة الأجنة والجاكوش.

«أحمد دفع الله» القادم من الولاية الوسطى يروى قصته مع التنقيب، قائلاً: «من دفعنى للذهاب لولاية نهر النيل هو صديقى محمد الذى أتى إلى هنا قبلى بشهر كامل، وعندما عاد كان معه مبلغ ضخم من المال بعد بيعه أوقيات الذهب التى عثر عليها»، لافتا إلى أن شبكات الاتصال الهاتفى لا تعمل فى تلك المناطق النائية ما يصعب مهمة التواصل.

كرم الله محمد سر الختم «بحار» طاف أكثر من «50» ميناء عالمياً لكنه ترك ذلك ليصبح منقباً عن الذهب، فأسبوع واحد قضاه «سر الختم» فى صحراء «قبقبة» جعله يفكر جاداً فى عدم العودة لوظيفته المرموقة، حيث يقول: «إذا ما قارنت بين البحر والصحراء، ستجد الأخيرة أكثر أماناً، لكثرة الباحثين حولى، فالصحراء باتت ممتلئة بالمركبات والبشر من وادى العشار بعطبرة إلى حلفا القديمة، فأكثر من مليونى شخص و40 ألف عربة يجوبون الصحراء بحثاً عن الذهب».

ويصف البحّار «سر الختم» الحياة فى الصحراء بأنها «عادية»، فهم يحملون معهم مؤناً وماء تكفى لشهر، معتبراً تقنين البحث عن الذهب «علاجاً للبطالة».

ويقول: «أكثر من مليونى عاطل موجودون فى البلاد قدم نصفهم إلى هنا بحثاً عن كنوز الأرض، وذلك رفع الحرج عن الحكومة فى توفير وظائف لهم ولو مؤقتاً، كما أن مستوى دخل الفرد ارتفع فى ولاية نهر النيل، وتبدل سكون الحياة فى المدن إلى زخم وعمار، ويكفى أن قريتى وحدها شهدت فى عيد الأضحى الماضى أكثر من 70 زيجة، كان غالبية عرسانها من رواد الذهب».

بعد جلسة سمر ليلية تجاوزت الساعتين، راح الجميع فى سُبات عميق، ومع أول خيوط للفجر هب فريق من «الدهابة» قاصدين مواصلة عملهم بنشاط دبَّه أمل العثور على مبتغاهم فى عروقهم، فساروا فى عمق الصحراء حاملين الجهاز الخاص بالتنقيب عن الذهب.

والتنقيب عن الذهب يتم فى «ورديات»، بحيث تضم كل وردية شخصين، أحدهما يحمل الجهاز، والآخر يقوم بحمل «كوريك»، على أن يتبادلا المهام بعد ساعة، لأن كل وردية مدتها ساعتان حسب اتفاق الدهابة، وقد تتصادف المجموعات فى الصحراء وتنشأ علاقات المعرفة والصداقة بين الأشخاص.

وبعد عدة ورديات متواصلة كانت الحصيلة بعض القطع من الذهب، التى لها أسماء معينة حسب أحجامها وأشكالها، منها «ناموسة، قرادة، تسالية، جنزبيلة، ضفدعة، دجاجة»، ولكن يبقى أكبرها على الإطلاق «الخلية»، لأنها تشبه خلية النحل، ويتراوح وزنها ما بين 2 و14 كيلوجراماً، ومن يعثر عليها فقد دخل مملكة الثراء من أوسع أبوابها.

«الملايين بل المليارات جناها الباحثون عن الثراء الذين قدموا من ولايات أخرى، وأحياناً من دول أخرى كإثيوبيا وإريتريا واليمن».. هذه كانت آخر الكلمات التى سمعتها وأنا أودّع من عشت معهم التجربة «الذهبية» فى قلب الصحراء السودانية، لأعود أدراجى إلى أرض الوطن، وفى جعبتى ما يمكن أن أقدمه لمصر.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية