الصباح الشتائى يدفع للبهجة، والغيوم فراء حول كتف حسناء بالغة النصوع. والشمس تبزغ من حين إلى آخر، كامرأة تعرف أن سحرها يكمن فى الندرة. وهبتْ نسمة من الهواء البارد مسحت تعب الحياة عن نفسى.
الطريق شبه خالٍ من الناس، وإحساس يغمرنى بالرضا والسعادة، وأن هذا العالم - رغم كل مشاكله - هو أفضل العوالم الممكنة!، وأننى راضِ عن ربى الذى تودد لى بكل هذه النعم، وأرجو أن يكون راضياً عنى.
وفى طريقى شاهدت حديقة صغيرة مهجورة. الأشجار خضراء باذخة الخضرة، رغم أن أحداً لا يهتم بها. والشمس المتسللة بين الغصون تنثر كرات فضية باهرة الفتنة. والرياح تحرك برقة أوراق الشجر، وكأنها تغازلها! وثمة قطة كسول ترقد تحت عناية الشمس وتتلو صلاتها الغامضة. ورائحة الخصوبة تنبعث، فتستجيب لها بواطن النفس، بذكريات لم أمر بها!
توقفت عن السير وشرعت أرمق بحب العصافير التى راحت تمشى على الأرض فى «عصفورية» نادرة! وكأنها تود أن تقول للعالم كله كم أنا صغيرة ورائعة!
المشهد الخلاب دفعنى إلى الاقتراب فى حذر. لكن العصافير التى امتلأت ببهجة الشتاء لم تعرنى اهتماماً. تجرأت أكثر حتى أصبحت على مسافة خطوات، فطارت كل العصافير باستثناء عصفور واحد. قلتُ بصوت مرتفع وكأننى أخاطب نفسى: «أموت واعرف لماذا تمشى على الأرض أيها العصفور؟».
استدار العصفور نحوى، وفجأة وجدته يخاطبنى بلغتى: «حاكون باعمل إيه يعنى؟ بالعب!!».
صعقتنى الدهشة! عصفور يتكلم! ويقولها بهذه البساطة «بالعب». كان بوسعه أن يقول لى كلاماً كبيراً مثل «أنا أكتشف العالم»، أو «سئمت من الطيران وأريد أن أجرب متعة أخرى»، أو «أبحث عن قبر المرحومة أمى». لكنه قال الصدق فى عالم يخلو من الصدق تماماً. هل تريدون الحقيقة؟ شعرتُ بأننى أمام مخلوق نادر.
قلت متملقاً: «هل تسمح لى يا حضرة العصفور أن أجرى حواراً صحفياً معك؟». رفع العصفور جناحيه بمعنى «أرجوك توقف»، ثم قال فى بساطة: «لا داعى للرسميات من فضلك». قلتُ فى دهشة: «ولكننا لم نتعارف من قبل، فكيف أرفع الكلفة؟». قال العصفور فى بساطة: «خلقنى الله، وأنت؟». قلتُ مأخوذاً: «خلقنى الله أيضا!».
طار العصفور قليلاً حتى أصبح فى مستوى نظرى، وقال: «أسكن الأرض، وأنت؟». قلتُ وأنا أكتم ضحكة: «وأنا أسكن الأرض أيضا!». قال العصفور مستطرداً: «أنا آكل وأشرب وأنام». قلتُ مقهقها: «وأنا آكل وأشرب وأنام! مثلك!». صافحنى العصفور بجناحه وقال: «الآن صرنا أصدقاء؟».
قلتُ متحمساً: «تسعدنى جداً صداقتك، وأرجو أن تدوم». قال فى بساطة: «لا شىء يدوم فى هذه الحياة إلا وجه الله وحده». أثارت عبارته مكامن الشجن عندى، ولكنى كتمتُ خواطرى وقلت مبتسماً: «واضح أننى أمام عصفور مثقف». قال فى جدية: «نحن - معشر العصافير - لا نعرف تصانيف البشر. فلتقل إننى عصفور علّمته الحياة». قلتُ متوسلاً: «أرجوك أخبرنى ماذا علمتك الحياة».
(غداً - إن شاء الله - يهدينا العصفور خبراته).