كان من المأمول أن يكون إقرار الدستور لحظة فرح، لكن شاءت جماعة الحكم تكتيف المواطن باسم الشريعة وهو على لحم بطنه، بينما يحكم أردوجان الذى يتمسحون به من خلال دستور لا يحتوى على كلمة واحدة عن الإسلام، ولم يغير الأتراك دينهم، ببساطة لأن الكتاب السماوى ليس بحاجة إلى حماية من الكتيب الأرضى.
لم تفهم الجماعة حتى الآن أن العدل أساس الملك، فاستهلكت جهودها فى خطف إرادة الآخرين بدلاً من التفكير فى التنمية، متوهمة إمكانية الحصول على شرعية مستمدة من السماء بإضفاء صورة الملاك على الرئيس ابن الجماعة، وعندما لم تكف صورة الملاك فى إقناع البسطاء بشرعية الحكم بدأت شيطنة الخصوم!
أكتب، بينما يزعق عضو بالجماعة فى هذه اللحظة على إحدى الفضائيات باتهام فكاهى يجعل من د. البرادعى سلفستر ستالونى، ويتهمه بالتخطيط لخطف د. مرسى وادعاء هروبه إلى قطر، ضمن خطة للاستيلاء على الحكم باسم مجلس إنقاذ يضمه مع حمدين صباحى وقيادات الجبهة الوطنية. من قبل استشهد الرئيس بفيلم «كوكب القرود»، ومن الواضح أن الجماعة ليست بحاجة إلى تحسين الأداء السياسى فقط، بل إلى تحسين نوعية الأفلام الأمريكية التى يعرضونها فى وقت الترفيه.
ما يحاولونه بفشل ذريع فى مجال السياسة ليس جديداً، بل هو وصفة قديمة لم تعد صالحة، إذ لم يعرف العالم سوى أشكال محدودة من الشرعية، يحددها عالم الاجتماع والسياسة الألمانى ماكس فيبر بثلاثة أشكال هى: ■ سلطة الأمس الأزلى (النبى والبطريرك والأمير سيد الأرض).
■ سلطة النعمة الشخصية والكاريزما (القائد المتوج فى الحرب وكبير الساسة وزعيم الحزب).
■ سلطة الشرعية المستندة إلى إيمان الشعب بدستور شرعى وكفاءة على أساس عقلانى.
النوعان القديمان تستخدمهما الأنظمة الديكتاتورية، والثالث يختص به النظام الديمقراطى. وبالنسبة للرئيس مرسى هو ليس نبياً أو بطريركاً أو مالك أرض بمن عليها، ولا ينطبق عليه الشكل الأقدم من السلطة. وهو ليس قائداً متوجاً، وليس زعيماً، بل إنه لم يكن الخيار الأول بالنسبة للجماعة، عندما حنثت بوعدها وقررت تقديم مرشح رئاسى. والعقل يقول إن الفرصة الوحيدة أمام رئيس جاء بعد ثورة شديدة العقلانية لابد أن تستند إلى قوة الدستور الشرعى والكفاءة ولا شىء آخر. ولكن الجماعة أصرت على إضاعة فرصة الدستور، مثلما تم تبديد الأساس العقلانى للحكم خلال الأشهر الخمسة المنقضية بإقصاء مستشارى الرئيس المتنوعين والاكتفاء بشورى الجماعة.
باختصار.. تم التفريط فى الطريق الحديث للشرعية تمسكاً بالقديم المستحيل. سعى الرئيس وجماعته لبناء شرعيته على خليط صورة النبى أو القديس، وصورة الزعيم المنتصر. إضفاء القداسة عبر تشبيهه بالنبى شهد رفضاً غاضباً من المصلين وصل إلى حد الاشتباك بالأيدى مع الخطباء فى المساجد، وهذا تطور جديد يحسب للجماعة بوصفه أول إفساد للدين بعد إفساد الدنيا، حيث أجبروا المصلين على كسر تعاليم الصمت فى خطبة الجمعة. وأما صورة القائد المنتصر، فجرت محاولة فبركتها من خلال الجولات المحمومة على الدول الخارجية. وقد توقف صناع الصورة أمام خطبة طهران، باعتبار أن التراضى عن عمر بن الخطاب إعلان حرب على الشيعة فى دارهم، ثم كانت ذروة صورة الرئيس الناجح مع التوسط فى هدنة حماس وإسرائيل.
ولو كان د.مرسى مجرد مشارك فى فبركة صورته على هيئة «المقدس المنتصر» مع الوعى بحقيقته، لكان ذلك مجرد مشكلة، لكن الكارثة أنه أول من صدق الصورة. والمشكلة أن النسبة غير العاقلة المستعدة للقبول بصورة الرئيس المعصوم لن تظل موجودة إلى الأبد، وقد لا تطالبه بمعجزة المشى فوق الماء، لكنها بالتأكيد تطلب ما يطلبه كل شعب من كل سلطة: الكرامة والرغيف.
ولهذا فإن الدستور بكل ما فيه ليس مباراة نهائية يتسلم بعدها الفائز الكأس، لكنها محطة طريق يحدد مستقبل البلاد ومستقبل الإسلام السياسى: هل بوسع هذا الفصيل الحياة فى الزمن الحديث أم يقتله حلمه الخيالى بتحقيق الشرعية من خلال قداسة مستحيلة بعد انتهاء زمن النبوة؟!