استرد وعيه بغتة. نظر حوله فى غرابة ثم شرع يسير. تلال الرمال كما عهدها مترامية على الجانبين، ولكنه يشعر بشىء تغيّر، لا يدرى ما الذى تغيّر! ربما سيعرفه عن قريب.
ومن بعيد شاهد شيئا يمرق فى سرعة خارقة. ليته يسترد صفاء ذهنه. آخر ما يذكره «محمد»، ونفير الحرب الذى دفعهم إلى امتطاء الإبل، والضرب بها فى كبد الصحراء، قريباً من يثرب، حيث تجمع محمد مع أصحابه، قرب منابع الماء فى بدر.
احتقن وجهه بغضاً حين تذكر «محمد». سمّاه «أبا جهل» ولكنه لم يبال. يتيم بنى هاشم الذى يروم أن ينال مكانة لم ينلها أشراف قريش. يتلو كلاماً عجيباً، ويزعم أنه نبى يأتيه وحى السماء.
توقف عند حافة الطريق فى ذهول. ما هذا اللون الأسود الذى يكسو الطريق؟ ومنذ متى استغنت العرب عن الإبل؟ وما هذه المركبات التى تسير بسرعة خارقة، وكأنها يحملها الجن! سحرنا «محمد»! لا بد أن له يداً فى هذا الملعوب.
وفجأة توقفت بجواره إحدى هذه المركبات. قال سائقها وهو ينظر لملابسه فى دهشة «اركب». تردد قليلاً ثم ركب. سأله السائق: «هل أنت من البادية؟». رد بلهجة قرشية صميمة: «أنا عمرو بن هشام، من أشراف قريش». غمغم السائق قائلاً: «نحن ذاهبون لمكة. كل من فى السيارة يرومون الحج».
وساد الصمت فشرع ينظر من خلال السطح الشفاف الذى يفصله عن الطريق. السيارة باردة رغم أن الجو حار، فهل هو سحر جديد من محمد؟! لم يبغض إنساناً فى حياته مثلما بغض ذلك الرجل! يتيم بنى هاشم الذى رآه يرعى الغنم بدراهم معدودة، لا أب له يكفله، ولا أم تحنو عليه، وعمه أبوطالب فقير كثير العيال رغم نسبه العريق. فكيف يُعقل بعد هذا أن يكون له تابعاً! يأتمر بأمره؟! مستحيل.
نظر إلى السماء فى حقد. لا ينكر أن قرآن محمد ساحر عجيب. لا ينكر نظمه الموسيقى ووقعه الغريب. هو الذى يعرف الشعر والنثر وسجع الكهان ونبواءت العرافين. لماذا لم ينزل هذا القرآن على رجل مثله! سيد بين قومه! شجاع مقدام كريم؟!
تململ فى مقعده. يذكر بصورة ضبابية حين التحم الجيشان قرب بدر. لم يكن هناك شك فى نتيجة المعركة. هم فرسان قريش وأشرافها، قادمون بالخيول والدروع والسيوف والحديد. وفى الجانب الآخر فقراء محمد، يرتدون أسمالهم الممزقة، ويبدو الجوع فى عيونهم، يحاربون بأيديهم العارية السيوف الحداد.
اندفع إلى قلب المعركة بكل حقده القديم. أسوأ ما فى الأمر أن تحارب من تعلم فى صميم نفسك أنه صادق أمين. بينه وبين نفسه، حينما يصغى إلى لحنه الداخلى، يعترف بأن محمداً لم يكذب فى حياته، ولم يقترف نقيصة قط، وأن قرآنه ساحر عجيب. لطالما تسلل فى هدوء الليل، مستخفياً وسط الظلام، جالساً بجوار بيت محمد، فقط ليستمع القرآن، ثم يعود قبيل الفجر قبل أن تستيقظ قريش.
(نكمل غدا إن شاء الله).