يخيل لك أحيانا أنك تمسك بزمام الأمور كلها، وأن الدنيا قد دانت لك بالسمع والطاعة، وأن القرار لك وما تريده سيكون هو الواقع، تفرط وتبالغ فى تقدير قوتك وحجمك الحقيقى، تختال على الناس بكبر واستعلاء، لا تنظر للمستقبل ولا تفترض للحظة خطأ اختياراتك وسوء مسلكك، تحتكر الحقيقة وترهب مخالفيك باتهامهم والتشكيك فى نواياهم، تحاول نزع الشرعية عنهم وتأليب الناس عليهم عبر تخوينهم واتهامهم بالإفك، تدعى وتروج أن هناك آلاف المؤمرات حولك تتربص بك وبالوطن، وأنك تريد حماية الوطن، تتمسح فى دماء الشهداء التى تعلم يقينا أنها قد ذهبت بلا قصاص فى ظلام الغرف الخلفية التى شهدت صفقات الخروج والتسليم والتسلم. تتاجر بدين الله وشريعته، تنصب نفسك حاميا لهما ومدافعا عن خطر عليهما تدعيه وتطنطن به حتى تبدو كفاتح جديد للوطن جاء لينشر به الدين الجديد الذى لم يعرفه، تستعين حولك بالأبواق والذيول العاشقة التى يسيل لعابها على ما تلقيه لها لتقف بجانبك وتضفى الشرعية على قبيح فعلك وسوء صنيعك، يصفقون لك ويهتفون لك ويقبضون فى نهاية الفقرة الراقصة التى أدوا فيها دورهم باقتدار.
تعود إلى بيتك فرحا فقد تمت المهمة بنجاح، تطمئن الرؤوس الخفية على سير العمل وتتلقى منهم الجديد لتنفذه بإخلاص، فأنت وفىّ لأصحاب الفضل ولا تستطيع الخروج عما يرسمونه ودورك تعرفه ولا تتخطاه، المهم أن يرضى هؤلاء.
قبل أن تنام تتداعى إلى ذهنك بعض من كلماتك ووعودك الوهمية التى كنت توزعها فى وقت ما، تبتسم وتغمض عينيك بارتياح لأن هذه الوعود قد خالت على الأبرياء المساكين الذين صدقوك لحظة ثم أدرت لهم ظهرك وقلت لهم: من أنتم؟
لا تتذكر يوما ظلمت فيه وكنت ضحية، نسيت هذا واخترت من جلادك بعض خصاله لتتلبسك وتظهر عليك دون أن تشعر، وما أعجب الضحية حين تتآسى بجلادها وتمارس نفس ما كان يفعله بها! تكذب وأنت تعرف أنك تكذب وتستحل الكذب، فالقيم الأخلاقية تسقط تحت حذاء الرغبة والغرض وحولك آلاف يبررون لك ذلك، قد يعاتبك صوت ضميرك حيناً ويؤنبك، لكنه لا يطول العتاب، تخرسه أصوات المدح والنفاق والتزييف.
كل ديكتاتور فى كتب التاريخ لم يكن ديكتاتورا من البداية، بل وجد من يساعده على ذلك ليتحول إلى كائن جديد لا علاقة له بالكائن الأول، لا تطلب منا إحسان الظن فالمبشرات ناصعة الوضوح وقد علمنا إلى أين نحن سائرون.
سر فى طريقك ولا تلتفت، على الدرب نفسه اتبع خطوات من سبقوك فستلحق بهم، لكنك ستختلف عنهم فى سرعة اللحاق بهم وملاقاة مصيرهم الذى لاقوه قبلك، لا تتعظ ولا تتعلم فيومك آت لا محالة وافتح كتاب الله الذى لا تعرف إلا شكله واسمه، واقرأ قول الله عز وجل:
«حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».