لغة أى شعب جزء من كيانه، تتعرض للظلم معه، وتموت عندما يموت، وتستيقظ عندما يستيقظ. هى علاقة مصير مشترك.
وقد تعرضت لغتنا للاستخفاف وفقدت الكلمات معانيها فى سنوات النهب التى أشعلت الثورة، وبينها كلمة «منظومة»، فكان الكبير فى نظام مبارك لا يستحى أن يقف أمام عشرات الميكروفونات ليعلن عن ابتكار «منظومة» لشىء بسيط مثل توزيع الخبز!
هذه ليست نكتة، ولكن قالها وزير مزمن ونافذ مثل سكين فى أزمة الخبز الأخيرة قبل السقوط، قالها بكل جدية «منظومة جديدة لتوزيع الخبز»، ولم يستح من استخدام كلمة بهذا الحجم لشأن بسيط كلف الدولة عمالة جديدة، واستهلك أخشاباً للأكشاك التى تستخدم كمراحيض عامة اليوم، بينما يجد الناس الخبز ببساطة فى كل الدول شبه الناجحة، وعندما يتعثر نظام فى شأن كهذا فهو المؤشر على اقتراب النهاية، وقد كان.
ولو لم تتعرض ثورة الخامس والعشرين من يناير للسرقة، لاستعادت كلمة «منظومة» هيبتها، فقد عرفناها فى السياسة للإشارة إلى نصف سكان العالم عندما كنا نقول «المنظومة الاشتراكية» أو «المنظومة الرأسمالية»، وفى العلم عندما نشير إلى جزء من الكون «المنظومة الشمسية»، ولم تفقد الكلمة هيبتها إلا فى السنوات العشر العجاف الأخيرة من حكم مبارك، وليس فى سنواته الثلاثين، لكى نكون منصفين.
وبدلاً من أن يختفى الطابع الفكاهى لكلمة «منظومة» من الخطاب السياسى، إذا به يتصاعد من كوميديا منظومة الخبز إلى منظومة توزيع البوتاجاز التى بدأت، بينما يجرى الحديث عن منظومة السولار والبنزين، إلى آخر هذه «المناظيم» التافهة التى تنبئ بالموجة الثانية من الثورة.
بقاء الدعم فى بلد يدار بقوانين رأسمالية منذ ما يقرب من الأربعين عاماً علامة فشل مؤكدة، أما ظهور الكوبونات فهو النهاية المحتومة، وليعِ هذا الإنذار من كان له عقل، فليس وراء الأزمات إلا المزيد من الأزمات، وليس وراء الكوبونات إلا المزيد من الوظائف غير المنتجة.
وإذا كان استمرار الدعم فى «منظومة رأسمالية» علامة غرق مؤكدة، فإن الكوبون هو الجردل الذى يظهر عادة فى يد نظام مخبول يحاول نزح المياه من قاع سفينة مخروق.
احتضان الدعم ليس حرصاً على العدالة الاجتماعية ولا على حياة محدودى الدخل، إلى آخر هذه الأسطوانة المشروخة، لكنه حفاظ على مستوى متدن من الرواتب لصالح رجال الأعمال.
قلنا لفشلة ما قبل 25 يناير، ضاعفوا الرواتب والمعاشات خمسة أمثال، استثمروا فى التعليم والصحة وهما مجالان لا يمكن تهريب أموالهما، وألزموا القطاع الخاص بالمستوى نفسه من الأجور، وعندها سيحدد العامل الحر والمهنى الحر الأجر المناسب لخدماته. لكن لحرصهم على استمرار تدنى الأجور تركوا الدعم، وسكّنوا بعض الاحتجاجات بنظام الكادر الخاص الذى أصبح مضحكاً هو الآخر؛ فكلمة «خاص» تعنى الندرة والاستثناء، ولكن الكادرات أصبحت القاعدة العامة، فلماذا لا يكون نظاماً للرواتب ومنظومة مستقرة؟!
هل هو الولع بزرع البغضاء بين أصحاب المهن والحرف بعد زرع بغضاء الملل والنحل والتحزب الكروي؟!
بالرواتب العادلة على قاعدة المساواة سيتحقق رضا الموظف عن وظيفته فيتحسن الإنتاج تلقائياً، وسيستهلك الرغيف بخمسين قرشاً وسيأكله كله ولا يشترى أكثر من حاجته، بينما فى منظومة الكذب يتلقى راتباً تافهاً مع إيهامه بأنه صاحب كادر خاص، ثم ندعم الرغيف ويتسرب ثلثا الدقيق المدعوم، أما الثلث المخبوز ذراً للتراب فى العيون فمنظومة الكذب تستخدمه الآن بكل تفاهم: المراقب الحكومى يتقاضى حقه، والخباز يعطى خبزاً بأربعة جنيهات ويتقاضى خمسة من المستهلك، والمشترى يذهب إلى الفرن بأجولة ملوثة يجلب فيها الخبز لأنه يحصل عليه لطيوره وحيواناته المنزلية، لكى يصل إلى حقه المشروع فى قطعة لحم وبيضة.
ذلك لأن اقتصاد البلاد يجب أن يدار منظومة واحدة، فإن لم نستطع فلتكن الزراعة منظومة واحدة، وليكن سعر العلف أقل من سعر القمح، هل يحتاج هذا إلى كثير من التفكير؟
الأمر نفسه يمكن أن نقوله عن أزمة السولار: عدم واقعية السعر من جهة، ومن جهة أخرى زيادة الاستهلاك بسبب خراب «منظومات»، مثل منظومة الرى التى قننت المياه المدفوعة إلى الوادى والدلتا، وأجبرت الفلاحين على رفع المياه بالماكينات فاستهلكت السولار ورفعت أسعار المحاصيل، بينما ذهبت المياه فى توشكى وغيرها من مغامرات اللعب بالماء فى الصحراء.
وإذا استمر الاستخدام الكوميدى للغة، ومحاولة حل كل مشكلة صغيرة باعتبارها «منظومة مغلقة وكاملة» فقل على الحزب الوطنى الجديد السلام، وفى أرض مصر الخطر.