الآن.. والآن فقط انتصر المستشار يحيى الرفاعى على «عبدالناصر والسادات ومبارك».. الآن يمكن أن يرقد المستشار العظيم سعيداً فى قبره بعد أن هزم ثلاثتهم.. والآن فقط انتصرت فكرة استقلال القضاء التى حارب وكافح من أجلها طويلاً حتى مات.. وكيف لا وهو يرى تلامذته الكرام «أحمد ومحمود مكى والبشرى ودربالة وجاد الله والخضيرى» وغيرهم فى أعلى هرم السلطة ليطبقوا ما تعلموه من «الرفاعى» الذى كان يتمنى أن يشهد هذه اللحظة بنفسه.. لكن جرت سنة الله فى خلقه أن غراس الزرع قد لا يرون ثمرته.. وقد قيل لأبى الدرداء: «لماذا تزرع الجوز وأنت شيخ كبير.. وهو يثمر بعد سنوات طويلة؟».. فقال: «غرسه أجدادنا لنأكل منه وأغرسه ليأكل منه من بعدنا».
لقد أسس «الرفاعى» أهم حركة فى تاريخ القضاء المصرى وهى «تيار استقلال القضاء».. وهى التى اصطدمت بالرؤساء الثلاثة «ناصر والسادات ومبارك».. لكن هذه المدرسة «الرفاعية» استطاعت أن تسحر القضاة الشرفاء وتضمهم إلى صفوفها لتنبع الأحكام من ضمير القاضى لا توجيهات أو رشاوى الحاكم المباشرة وغير المباشرة. وقد أطلق «الرفاعى» «بيان مارس» الذى توجه به القضاة إلى الرئيس «ناصر» للمطالبة بالحريات العامة واستقلال القضاء..
وهذا البيان كان من الأسباب الرئيسية لمذبحة القضاء، التى فصل على إثرها مئات القضاة وعلى رأسهم «الرفاعى» سنة 1969، لكنه لم ينحن للعاصفة ورفع دعوى قضائية ضد قرار العزل.. ورغم أن «السادات» أعاد المفصولين جميعاً إلى القضاء.. إلا أنه لم يعد «الرفاعى» إلى منصة القضاء.. فرفع دعوى قضائية عاد بها إلى منصة القضاء ليكون أول قاض يعود إلى منصة القضاء بحكم قضائى فى تاريخ مصر.. لكن «الرفاعى» لم يهدأ مع «السادات» الذى صحح بعض سلبيات «ناصر» ووسع مساحة الحريات فانتقد قانون العيب الذى شرعه «السادات» وطالب بإعادة مجلس القضاء الأعلى، وأن يكون المختص الوحيد عن شؤون القضاء والقضاة.. فأمر «السادات» بتخطى «الرفاعى» من محكمة النقض عقاباً له على ذلك.. لكنه عاد إليها مرفوع الرأس بحكم قضائى.
ثم جاء «مبارك» وحدثت بينه وبين «الرفاعى»، العنيد والصلب، المواجهة الكبرى فى مؤتمر العدالة «الأول والأخير» سنة 1986 فى نادى القضاة، حينما كان «الرفاعى» رئيساً له، حيث أصر أن يسمع «مبارك» بنفسه أن قانون الطوارئ أسوأ ما ابتليت به المنظومة القضائية المصرية، وأنه السبب الرئيسى فى سلب حريات المصريين وكرامتهم. وقد استبق «مبارك» كلمة «الرفاعى» بجلسة مسائية لمجلس الشعب مدد فيها الطوارئ ثلاث سنوات.. ولم تنته المواجهة بينه وبين «مبارك» فقد وجه «الرفاعى» لـ«مبارك» نداء يطالبه فيه بضرورة تنفيذ أحكام القضاء، وأن قيام الدولة بإهدار أحكام القضاء يبيح من وجهة النظر الشرعية والدستورية الخروج المسلح عليها.. وحينها كانت الفاصلة..
فبدأت الجهات الأمنية تتحرش بالفقيد لتعطيه إنذاراً شديد اللهجة، حيث تعقبته سيارات أمنية وهشمت سيارته وكأنها تقول له المرة القادمة «ستموت تحتها». مات «الرفاعى» بعد أن اعتزل المحاماة برسالة نارية إلى نقيب المحاميين صب فيها جام غضبه على «مبارك».. مات دون أن يرى نصراً لأفكاره عن استقلال القضاء.. لكنه انتصر فقط الآن.. لكنى أحذر تلميذه المستشار أحمد مكى أن يهزمه مرة أخرى بعد نصره بإعادة قانون الطوارئ.. فالخرق يبدأ صغيراً ثم يتسع.