الطريقة التى تم التعامل بها فى مسألة اختيار رئيس الوزراء الجديد وأعضاء حكومته لم تدهشنى كثيراً، فأنا أعتقد أن نظام مبارك الغبى الفاسد الذى استمر لثلاثة عقود قد رسَخ فى كل أركان الدولة ومفاصلها نُظماً وأفكاراً تحولت تدريجياً فى عقول الملايين من كهنة وموظفى النظام إلى بيروقراطية عفنة يتبعها دولاب العمل فى الدولة بدون تفكير ولاحتى رغبة فى التغيير يحافظ بها النظام على استمراره وقدرته على النهب والسيطرة.
كانت الآمال كبيرة عقب الأيام الأولى للثورة العظيمة فى مقدرة الشعب وبخاصة شبابه الواعى الذى كان فى الطليعة على مواجهة هذه البيروقراطية العفنة المُتجذرة فى التربة المصرية والقدرة على تغيير هذه الأوضاع البائسة- التى قبلها المصريون كقدر لا فكاك منه- بوصول رياح الثورة إلى كل مكان على أرض مصر، تقتلع المبادئ والأفكار الفاسدة العاجزة وتخلق واقعاً جديداً مختلفاً، وهو بالضبط ما يعنيه تعبير «التغيير الثورى» الذى كنا نتمناه ولم يحدث. للأسف الشديد فقد كانت العوائق والعقبات أمام هذه الروح الثورية أكبر بكثير من قُدرة الثوار والأغلبية من الشعب المصرى المؤيدين لهم، حتى لقد كان ينتابنى دائماً الشعور بأن ثورة واحدة لاتكفى لإحداث تغيير ينقل مصر خطوات كبيرة وحقيقية للأمام.
جال ذلك بخاطرى منذ عدة شهور بعد تشكيل أول مجلس شعب مُنتخب بعد الثورة، وكيف أن رئيس المجلس وأعضاءه لم يحاولوا القيام بأى تغيير فى طريقة العمل بالمجلس ولا حتى فى شخوص أعضاء أمانته وكبار موظفيه الذين ظلوا لسنوات طويلة فى خدمة مجالس مزورة لاتتصرف إلا بأوامر عليا وغرقت لأم رأسها فى مستنقعات الفساد التى كانت فى ذلك الوقت، وحافظ رئيس المجلس الجديد على هذا الميراث البغيض وقربهم منه بل وحماهم من المساءلة والحساب نظير استمرار الأوضاع كلها كما هى تقريباً عدا تغيير الوجوه وعدد أصحاب اللحى. حينما تولى د. مرسى الرئاسة، وكنت ممن اختاروه باعتباره بشكل ما منتمياً للثورة العظيمة، لاحاقداً وكارهاً ومتآمراً عليها كمنافسه، توقعت منه أسلوباً يختلف اختلافاً جذرياً عن أسلوب النظام الفاشل السابق فى التعامل مع الأوضاع السياسية والمهام العاجلة أمامه، واستبشرت خيراً بخطاباته الأولى فى التحرير وجامعة القاهرة،
ولكن ماهى إلا أيام حتى بدأت قوى البيروقراطية العفنة فى كل مؤسسات الدولة تحتويه رويداً رويداً ليتصرف بنفس الطريقة التى كان يتبعها الطاغية المخلوع والتى استمر عليها المجلس العسكرى، فيتم اختيار رئيس وزراء ووزراء بدون أية مُكاشفة ومُصارحة للشعب عنهم وعن إمكاناتهم وأسباب اختيارهم، ولست أدرى من أدخل فى عقل سيادته أن المطلوب فى هذه المرحلة وزراء تكنوقراط، أى ذوو خبرة فى النواحى الفنية والعلمية النظرية ولا علاقة لهم بالسياسة! الوزير ياسادة منصب سياسى والفترة الحالية بالذات تستدعى استنهاض الهِمم وإقناع الناس بالمشاركة فى تحمل المسؤولية والأعباء الثقيلة المُنتظرة، وهذا يتطلب بلا شك وزراء سياسيين بالدرجة الأولى ذوى طموحات وهمم عالية وأفكار غير تقليدية ومقدرة على التواصل مع الناس، والسياسة الفاشلة فى اختيار الوزراء من بعض أساتذة الجامعات أو الموظفين الكبار مع شرط ألا تكون لهم رؤية أو حتى اهتمامات سياسية طبقاً لتقارير الأجهزة الأمنية مع وجود علاقات شخصية ببعض أصحاب النفوذ كانت من أهم أسباب التدهور العام والحضيض الذى وصلنا إليه.. نفس التفكير يبدو أنه يتكرر مع اختلافات بسيطة مثل تفضيل أصحاب اللحى ومن يُظهرون حرصهم على أداء الصلوات فى أوقاتها، وكعادة النظام الساقط تنحصر الاختيارات فى الدائرة المُقربة من الأصدقاء وزملاء المهنة باعتبارهم أهلا للثقة.
الغريب أيضاً أن نفس التفكير النمطى الذى كان سائداً منذ عقود فى تخصيص عدد محدد من الوزارات قليلة الأهمية للأقباط والمرأة، يبدو أنه مازال هو السائد بكل غبائه واتباعه لما تم توريثه من بيروقراطية عفِنة مازالت لها الكلمة العليا فى البلاد! يبدو أننا نعيش مرحلة التغيير النمطى المحافظ لا كما كنا نأمله من تغيير ثورى ومُبدع.. هل حقاً أن ثورة قد قامت وأن نظاماً قد سقط أم أن ثورة جديدة آتية لاريب ؟!