x

الشيخ إمام.. ثورة مُستمرة منذ أربعين عامًا

الخميس 07-06-2012 16:29 | كتب: محمد المصري |
تصوير : أ.ف.ب

 

(1)


لَم يَكُن يَعلم هل اصطكاك أسنانه في تِلك اللحظة بسبب البرد أم الخوف، يَجْلِس تماماً في مُنتصف الكَعْكَة الحَجريَّة، الهجوم على المِيدان متوقَّع في أيّ لَحظة، ماذا سَيفعل شَيخ أعمى وضَعِيف إن حَدثت تِلك الفَوْضى؟، ستدهَسه الأقدام ولن يَتذكَّره أحد، يَشعر بدفءِ الدُّخان الخارج من فَمّ «نِجم» وهو يخرجه من أفكاره، ويسأله متى سيبدأ الغِناء؟، يُكْمِل مُحاولته لظبطِ أوتار العود، بأيدٍ مُرْتعشة ورَوح قَلِقة، ثُمَّ يَبدأ اللَّعب بنغماتٍ غير مُنتَظِمَة، ليعم السّكوت في القاهرةِ كُلّها، ويتوقَّف العَشرة آلاف مُعتصم عن أيّ حَديث، يَستمر في لَحْنِ غَير واضح، ولكنه مَع ذَلِك يَدُبّ الحَياة في رَوح المَدِينة الباردة، ويبدأ الغِنَاء بكلماتِ «نِجم» التي كَتبها منذ خَمسة أيّام فَقط: «رِجعوا التّلامذة يا عَم حَمزة للجَدّ تاني»، يُرَدّد الجَميع وراءه، وحِينَ أكمل «يا مَصر انتِ اللي باقية انتِ قَطف الأماني»، تَوَقَّفت أسنانه عن الاصطِكَاك، وتذكَّر فقط أن تِلك الليلة، ثلاثاء الخامِس والعشرين من يناير، هي الليلة التي انتظرها طوال السنوات الماضية، طوال حياته رُبَّما.


(2)


كانت البلاد مُشتعلة طوال الأسبوعين اللذين سبقا تِلكَ الليلة، حَدِيث الرئيس عَن «الحرب الهندية الباكستانية» وتسببها في «ضبابٍ» يُعيق التحرُّك، وبالتالي استمرار حالة «اللا سِلم واللاّ حَرب»، هِيَ القَشّة التي أشعلت الغَضب في نِفوسِ طُلاَّب الجامعات، وتحديداً «هَندسة جامعة القاهرة»، والنتيجة: اعتصام مَفتوح في الكليَّة لحين حضور رئيس الجمهورية للإجابة على تساؤلات الطُّلاب، سرعان ما تَحَوَّل إلى اعتصامٍ الجامعة كُلها بدءً من الإثنين، السابع عَشر من يناير، يَقوده مُتحدّث رَسمي، شاب نَحيف ومُتحدّث لَبِق في كليَّة اقتصاد وعلوم سياسية يُدعى «أحمد عبد الله رُزَّة»، مع لَجنة وطنيّة من طُلاَّب الجامعة حملت أسماء مِثل «أحمد بهاء الدين شعبان»، «سهام صبري»، و«كمال خَليل».


ولسبعةِ أيام مُقبلة، استمر الاعتصام المَفتوح، سَبعة أيَّام كانت كافية كي يزداد الغَضَب المكتوم لمن هُم خارج الجامِعَة وهم يتابعون بشغفِ صَوت الحَق وهو يتحدّى السُّلطان، كافية لأن تُؤكَّد أن طُلاّب مَصر يمكن أن يَقودوا المَسيرة إلى الأمام، كافية لأن تُسَبّب صَخباً في أركانِ دَولة تُحاول تَصَنُّع الهدوء لعامينٍ كاملين، وكانت كافية أيضاً لأن يَكتب «نجم»، لَيْلَة الخميس 20 يناير 1972، «طِلعوا التّلامذة وَرد الجناين/اسمع يا مِيلص وشوف وعاين».


(3)


«مَلعون أبوك ابن كَلب خاين يا صوت أمريكا يا أمريكاني»


كان المِيدان يَزأر لتسمع القاهرة النائمة صَوت «إمام» وهو يُغَنّي على عوده، وسط الميدان، الذي انتقل إليه اعتصام الطُّلاَّب في الخامس والعشرين من يناير، بعد اقتحام الجامعة عن طَريق الأمن المَركزي في اللَّيلةِ الماضية، والقَبض على ما يقارب الألفِ من «وَرد الجناين».


وكان إمام يُغني، كما لم يُغنّ من قَبل، بروحٍ ثَورية تَكْتَسِب قوّتها من وَحي ما يَحدث، وتبدو الكَلمات أصدَق وأشَدّ من أي مَرة غَنَّاها فيها مِن قَبل.


وفي التليفزيون والإعلامِ الرسمي، كان الأمر مُختلفاً، للمرةِ الأولى يُشاهد المصريون رئيسهم وهو يَشِدّ عُروقه النافرة، يبدو غاضباً وعَصبياً بما لا يَليق برئيس دَولة، وهو يَقول بغلّ «أنا مقعدش مَع رُزّة»، قَبل أن يُلقي الدُّعامة الأولى لأسطورة «الشباب الطاهِر النّقي» حين قال أن «الطُّلاب طَيبين»، ولكن بالطبع هناك دائماً «قلة مُنحرفة بيشتموا أساتذتهم ويشربوا سَجاير ولاد على بنات، مَسخرة وقلّة أدب»، حسب تعبيراته وقتها.


وعلى الرَّغم من أن اعتصام الكَعْكَة قد فُض بالقوة بعد ثلاثة أيام، إلا أن المصريين عرفوا للمرةِ الأولى صَوت أعلى من حاكِمهم، صوت أحمد عبد الله رُزّة وهو يَهتف في زملائه داخل المُعتقل «إخواني الطّلبة.. مشوارنا لسَّه في أوّله.. ومادام بدأنا نِكَمّله»، نَفس المُعتقل الذي شَهد بعدها بأيام صَوت إمام، بعد أن قُبِضَ عليه مع نجم ومئات غيرهم إثر أحداث الكعكة، وهو يُغنّي مُتحدياً: «واسمعي يا بلادنا خلاصة القول/وبقولّك أهو وأنا قد القول/مش مُمكن كِده هَيْحُول الحُول/على كِده والنّاس يفضلوا سَاكتين/خليكوا شاهدين .. خليكوا فاكرين».


والنَّاس، ظَلّ الكَثير منهم يتذكرون، حتى رؤوا، بعدها بتسعة وثلاثون عاماً.


(4)


«سَلّمي لي عَ الولاد السُّمر/خُضر العُمر/في عموم الحواري/سَلّمي لي عَ البنات/المَخطوبين في المَهد/لسرير الجواري/واسأليلي بالعِتاب/ كُل قاري في الكِتاب/حد فيهم كان يصدَّق/بعد جَهل وبعد مُوت/إن حِس الشّعب يسبق أي صوت؟!».


في السّينما، أو الأدب، يُمكن إعادة كِتابة الحِكايات من جديد، الأطيبُ من أي شيء هو القدرة على منح الفرص الثانية بنهاياتٍ مُختلفة، ولكن في الواقع هل من الممكن أن يحدث هذا؟، نَفس التاريخ، نفس اليوم، نفس المَكان، نفس الأرواح الثائرة، نفس الحَناجِر القوية، حتّى «الشيخ» كان هُناك بنفسِ الأغاني التي تَمْنَع القاهرة عن سكونِها، حتى الخَفافيش السوداء قد أتت في نَفسِ الموعد لتفرّق المُحبّين.


كل شيء كان على حاله، والفارق فقط أن النهايات تَختلف في الفُرصِ الثانية، وبعد التَّفرقة، اجتمع النّاس مِن جديد، هل كان أحد يُصَدّق إن «حِس» الشعب يُغيّر المُعادلة إلى تِلكَ الدرجة؟


وما يُمكن أن يُرى في كُل هذا، أن الثَّورة لم تبدأ منذ عام ونصف، بدأت منذ أربعين عاماً، والشّيخ كان شاهداً على كل لحظة فيها، حتى إن غَيَّبه المَوت، ظَلّ صوته موجوداً.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية