منذ توقيع معاهدة لوزان الثانية فى 1923، بسويسرا وإعلان قيام الجمهورية التركية على أراضى شبه جزيرة الأناضول، ووفاة الإمبراطورية العثمانية، وحتى الآن يعيش الأتراك وفق «مبادئ القائد المؤسس كمال أتاتورك»، وهذه المبادئ ليست فقط كتباً أو مذكرات للجنرال الذى أسس الجمهورية، لكنها جزء أصيل «لا يجوز تعديله» من دساتير متعاقبة حكمت البلاد 89 عاماً، وأدارتها حكومات من اليمين واليسار، وتداخلت فيها «سلطة السلاح»، مع «سلطان الدستور»، حتى بدا أن تاريخ آخر قرن من حياة الأتراك، هو إما صراعات على «وجود الدولة ونقائها العرقى»، أو إزاحات متبادلة بين العسكر ومعارضيهم سواء كانوا شيوعيين أو إسلاميين.
انطلق الدستور التركى من هاجس «تفكك الدولة» الذى شغل الأتراك بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، حيث تفككت مملكة «رجل أوروبا المريض»، فى سنوات معدودة، وتلفتت «تركيا الأم»، لترى نفسها مهددة بالانهيار، وليس لديها حصن حقيقى يمنعها من «الذوبان» فى محيطها الإقليمى المضطرب إلا قوة السلاح، واختلاف اللغة والعرق، فعلى الدوام هناك مشاكل حدودية مع الجيران فى الجنوب بسبب الموصل وحلب والإسكندرونة، وفى الغرب مع «العدو اليوناني»، سبب أزمير، وفى الشرق مع أرمينيا بسبب مجازر الأرمن وفى الشمال مع الاتحاد السوفيتى الطامع فى «المياه الدافئة»، ومع الأكراد بسبب النزعة الانفصالية فى ديار بكر.
أغلب هذه الهواجس جعلت الدساتير التركية المتعاقبة، تحرص على «تحصين الهوية»، وتعطى للقوات المسلحة دوراً متضخماً فى «حماية النظام والدولة» من الانهيار أو التفكك.
فالجيش التركى الذى ينظر إلى نفسه باعتباره «درع الكمالية والمحافظ على ثوابت وأصول الدولة الديمقراطية العلمانية»، نفذ 4 انقلابات عسكرية الأول فى 27 مايو 1960، ثم انقلاب آخر فى 12 مارس 1971، تلاه انقلاب جديد فى 12 سبتمبر 1980، ثم انقلاب أخير فى 28 فبراير 1997.
على وقع هذه الحالة من «فزع التفكك أو الانقلاب»، وجد الأتراك فى «مدونة أتاتورك» شيئا ثابتاً يعطيهم «ضمانة» للمستقبل، فأصبحت مبادئ «الجنرال المؤسس»، هى قلب كل دستور كتب فى تركيا منذ تأسيسها وحتى الآن.
عدلت تركيا دستورها الأخير (الصادر فى نوفمبر 1982)، 13 مرة، وشملت تلك التعديلات، حسب رئيس وزراء تركيا الحالي، رجب طيب أردوجان، 65 مادة من أصل 177 مادة تشكل الدستور، منها 11 مادة تغيرت أكثر من مرة، ليصبح الدستور حسب أردوجان أيضا، «مدعاة للاستياء والجدل».
طرح أردوجان منذ وصوله إلى رئاسة الوزراء، حزمة إصلاحات دستورية متدرجة، تقدمت نحو معسكر «الجيش»، كلما تقدم الاقتصاد التركي، لكنها لم تستطع المساس بـ«جوهر الكمالية العلمانية» التى ظلت راسخة فى دستور تركيا ولا تحتمل التعديل أو الحذف.
يبدأ الدستور التركى بديباجة متوسطة الطول جاء فيها أن هذا الدستور يأتى «تماشياً مع مفهوم القومية والإصلاحات والمبادئ التى أدخلها أتاتورك مؤسس جمهورية تركيا وقائدها الخالد وبطلها الذى لا منازع له، يجسد هذا الدستور ويؤكد وجود الأمة التركية ووطن الأسلاف التركى ووحدة الدولة التركية»
وتشدد ديباجة الدستور على عدة مبادئ أبرزها الديمقراطية والفصل بين السلطات و«عدم جواز منح أى حماية لأى نشاط يتعارض مع المصالح القومية التركية، ومبدأ عدم تجزؤ تركيا، وما نادى به أتاتورك وعدم تدخل المشاعر الدينية المقدسة أيا كانت فى شؤون الدولة وسياستها».
أما المواد الأولى من باب (المبادئ العامة)، الذى يتصدر الدستور فيأتى فى المادة الثانية منها أن «جمهورية تركيا دولة ديمقراطية علمانية اجتماعية تحكمها سيادة القانون» وتضيف أن ذلك يأتى فى ظل «الولاء للقومية التى نادى بها أتاتورك وتستند للركائز الأساسية المبينة فى الديباجة».
أما المادة الرابعة من الباب نفسه فتنص على أنه «لا يعدل ولا يُقترح تعديل حكم المادة 1 من الدستور الذى ينص على أن شكل الدولة هو الجمهورية، وكذلك أحكام المادة 2 بشأن خصائص الجمهورية، وأحكام المادة 3».
فى فصلٍ آخر بعنوان (الأحكام العامة)، يشدد الدستور التركى فى المادة 14 المعدلة فى 17 أكتوبر 2001 على أنه «لا تمارس أى من الحقوق والحريات المجسدة فى الدستور بهدف انتهاك وحدة الدولة بأراضيها وأمتها غير القابلة للتجزؤ» وأيضا أى استخدام «يعرض للخطر وجود النظام الديمقراطى العلمانى للجمهورية التركية المستند لحقوق الإنسان».
ورغم أن المادة 24 من الدستور تنص على أنه «لكل فرد الحق فى حرية الضمير والعقيدة والإيمان الدينيين، وتجرى بحرية أعمال العبادة والطقوس والشعائر الدينية»، لكن ذلك حسب المادة نفسها يتم «بشرط ألا تمثل (تلك الأعمال) انتهاكا لأحكام المادة 14».
وتتابع المادة نفسها ناصة على أنه «لا يجوز إجبار أحد على العبادة ولا على المشاركة فى الطقوس والشعائر الدينية، ولا على المجاهرة بمعتقداته وبما يؤمن به دينيا، ولا يوجه إليه لوم أو اتهام بسبب معتقداته أو ما يؤمن به دينياً».
أما الفقرة الرابعة من المادة 24 أيضا فتنص على أنه «لا يُسمح لأحد بأن يستغل أو يسىء استغلال الدين أو المشاعر الدينية أو الأشياء التى يعتبرها الدين مقدسة، على أى نحو كان لغرض التأثير الشخصى أو السياسى أو حتى إسناد نظام الدولة الأساسى الاجتماعى والاقتصادى والسياسى إلى ركائز دينية».
أما فيما يتعلق بتدريس الدين للطلاب، فينص الدستور فى الفقرة الثالثة من المادة 24 (الباب الثانى) على أنه «.. ويقدم التعليم والتوجيه بشأن الدين والأخلاقيات تحت إشراف الدولة وسيطرتها، ويكون هذا التوجيه المتعلق بالثقافة الدينية والتربية الأخلاقية إلزامياً فى مناهج المدارس الابتدائى والثانوية، أما التعليم والتوجيه الدينيان الآخران فيخضعان لرغبة الفرد، ويكونان مرهونين فى حالة القصر بطلب ممثليهم القانونيين».
وفى الفصل الرابع من الدستور، وتحديداً فى المادة 68 التى تعطى حق تكوين الأحزاب، يضع الدستور عدة قيود «لحماية قيم العلمانية»، فهو ينص فى الفقرة الثالثة من المادة على أنه «.. ولا تكون لوائح الأحزاب السياسية وبرامجها، وكذلك أنشطتها متعارضة مع استقلال الدولة، ومع وحدتها بأراضيها وأمتها غير القابلة للتجزؤ، ولا مع حقوق الإنسان، ومبادئ المساواة وسيادة القانون وسيادة الأمة، ولا مع مبادئ الجمهورية الديمقراطية العلمانية».
وتضيف المادة قيداً آخر على الأحزاب الشيوعية حيث يلزم الدستور الأحزاب جميعا بـ«لا ترمى إلى حماية أو إقامة ديكتاتور طبقة أو مجموعة أو أى ديكتاتورية من أى نوع ولا تحرض المواطنين على الجريمة»، ويعتبر الدستور التركى كل خروج على «مبادئ أتاتورك» جريمة وفعلاً غير دستورى «يستوجب التدخل».
أما فيما يتعلق بالسلطة التشريعية، فإن نواب البرلمان التركى (الجمعية الوطنية الكبرى)، يؤدون قسماً ملزماً 81 من الدستور وهو «أقسم بشرفى ونزاهتى أمام الأمة التركية العظيمة بأن أصون وجود الدولة واستقلالها ووحدة البلد والأزمة غير القابلة للتجزؤ وسيادة الأمة المطلقة، وبأن أظل مخلصاً لسيادة القانون وللجمهورية الديمقراطية العلمانية ولمبادئ أتاتورك».
أما رئيس الجمهورية، فهو يقسم القسم نفسه على الالتزام بمبادئ أتاتورك والدولة العلمانية ويضيف الدستور فى نص قسم الرئيس عبارة «.. وأن أبذل قصارى جهدى للحفاظ على مجد جمهورية تركيا وشرفها، وأن أؤدى واجبى بلا انحياز».