ترتبط مصر والصين بعلاقات سياسية قوية منذ اعتراف جمال عبد الناصر بجمهورية الصين الشعبية بعد سنوات قليلة من إعلانها عام 1949. وقتها كان الاعتراف بالجمهورية الشيوعية كفيل باستفزاز الولايات المتحدة ومن دار في فلكها. لكن رغم ذلك فإن مصر اعترفت بالصين الشعبية واحتفظت معها بعلاقات سياسية دافئة منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا. وفي المقابل، فإن العلاقات الاقتصادية المصرية-الصينية ظلت ضعيفة مقارنة بالعلاقات السياسية بين البلدين.
لم تكن الثورة الصينية التي انتصرت بعيدة عن ثورة يوليو. كذلك، لم تكن ظروف الشعب الصيني أفضل من ظروف الشعب المصري في مطلع خمسينيات القرن الماضي. ورغم ذلك، فبعد ستين عاما نجد الفارق كبير بين كلا البلدين. فبينما يعاني ملايين المصريين من الفقر والجوع والمرض، نرى الصين وقد احتلت مكانها بين الدول الكبرى في العالم.
هل يمكن نقل «التجربة الصينية» إلى مصر؟ وهل يمكن تطوير العلاقات السياسية بين القاهرة وبكين إلى علاقات اقتصادية تستفيد منها الدولتين؟ وهل هناك مقومات في مصر تسمح لها بتكرار «التجربة الصينية»؟ أسئلة طرحتها «المصري اليوم» في بكين وشنغهاي على عدد من المسؤولين والخبراء الصينيين والمصريين.
الحالة الصينية
«الحالة الصينية وليست التجربة الصينية»، هكذا وصفها القنصل العام المصري في شنغهاي «هشام شعير» الذي يرى أن ما حدث في الصين ليس «تجربة» من الممكن تكرارها، وإنما «حالة» تعاملت الصين فيها بحسب ما تقتضيه مصلحة شعبها وبحسب خصائص الشعب الصيني، وعلى مصر أن تسعى إلى إيجاد «حالة مصرية» جديدة تراعي فيها خصوصياتها.
«كل تجربة لها خصوصياتها. من الممكن الاستفادة من التجارب الأخرى، ولكن بما يتماشى مع مقوماتنا»، هذا ما يراه «ياسر النجولي» مدير فرع البنك الأهلي المصري بشنغهاي، مضيفًا: «سبب قوة الصين هو سبب ضعف مصر. نظام الحزب الواحد عندنا تسبب في إضعاف الدولة في مصر. أما في الصين، فالحزب الشيوعي قرر تنمية البلد ووضع سياسة غير قابلة للتعديل من قبل أفراد.. نظام يلتزم به كل من يأتي في الحكم. والشيء الآخر الذي أُضعفت به مصر وكان من أسباب قوة الصين هو الزيادة السكانية. حيث أن الصينيين استغلوا عدد السكان من ناحيتين، قوة عاملة وقوة شرائية، هذا بالإضافة إلى استخدامه في التفاوض مع المستثمر الأجنبي الذي يُقال له إن سوقه داخل الصين يتجاوز المليار و300 مليون نسمة، وبالتالي فإن أي فشل معناه أن العيب من المستثمر نفسه.»
كون العلاقة بين الصين ومصر سياسية أكثر منها اقتصادية، هو أمر أكده أستاذ الاقتصاد في جامعة شنغهاي «تشيان خوي وين» لـ«المصري اليوم». يقول وين: «قادة الصين يعتبرون مصر أهم دولة في منطقة الشرق الأوسط من الناحية السياسية. أما من الناحية الاقتصادية فالسعودية هي الدولة الأهم بالنسبة لهم. الصين تستورد من السعودية 50 مليون طنًا من البترول، والاقتصاد الصيني يتطور معتمدًا على البترول».
قد تكون السعودية هي الأهم من الناحية الاقتصادية للصين، إلا أن مصر لديها الكثير من المقومات التي تؤهلها لتدشين شراكة اقتصادية قوية مع الصين، هذا ما يراه الدكتور «صن يانج» المتخصص في الشؤون الأمنية في الشرق الأوسط: «مصر دولة مهمة لتنمية الاقتصاد الصيني وتمثل سوقًا كبيرًا للصين. وبعد الثورة فإن مصر بحاجة إلى إعادة البناء ومن الممكن أن تقوم الصين بدورها في هذا الأمر».
المشكلة، كما يقول «ياسر النجولي»، أن: «الصينيين للأسف الشديد يفهموننا أكثر مما نفهم أنفسنا ويعرفون قيمتنا وقيمة الموقع الجغرافي لمصر أكثر منا ويتمنون الاستثمار في مصر، إلا أن مصر غير جاهزة لذلك.»
يشكو «النجولي» أن مصر لا تسوّق موقعها الجغرافي اقتصاديًا وتجاريًا: «مدة شحن الحاوية 20 قدم من الصين إلى مصر حوالي شهر، وتكلفتها حوالي 4000 دولار. أما من أي ميناء في مصر لأي ميناء في أوروبا، فالأمر يستغرق من يومين إلى سبعة أيام، والشحن لا يكلف سوى ربع هذا المبلغ. ولذا فمن مصلحة المستثمر الصيني أن يقيم بعض مشاريعه في مصر.»
ومن ناحية أخرى، فالبيئة القانونية المصرية تعد هي الأخر عائقًا أمام الاستثمار الصيني. يقول الدكتور «خوي وين» لـ«المصري اليوم»: «الاستثمار وإقامة مناطق صناعية في الدول العربية هو أمنية الشركات الصينية. لكنها لا تستطيع ذلك لأسباب كثيرة منها نقص المعرفة بالقوانين المحلية ووجود قوانين تعوق الاستثمار الصيني، بالإضافة إلى أن الدول الغربية سبقت الصين في الدخول إلى هذه البلدان منذ زمن الطويل.»
فقدان الرؤية
يبلغ حجم التبادل التجاري بين مصر والصين 7 مليار دولار، بينهم 6.1 مليار دولار صادرات صينية لمصر، ويزيد هذا الميزان سنويًا لصالح الصين.
يرى «ياسر النجولي» إن «هذا العجز لن يعالج. لكن من الممكن تعويضه بزيادة الاستثمارات الصينية في مصر، بمعنى أن نأخذ من الميزان التجاري بعض السلع ونقلبها إلى استثمار، وهذا أمر لا يحتاج إلى تجريب لأن هذه السلع لها سوق بالفعل في مصر».
يؤكد «النجولي» أن هناك العديد من الطرق الأخرى لتعويض العجز التجاري بين مصر والصين: «من الممكن أن نطلب من الصين إقامة مدينة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة من الميزان التجاري بيننا، وهي لن ترفض لأنها تريد تأمين أسواق ومواد خام وطاقة. طهران كلها «صنع في الصين». لكن إيران استقدمت الصين لتطوير المدينة لأنها تصدر لها بترولا. لابد أن تكون لدينا رؤية وخطة واضحة كي نجذب الاستثمار الصيني.»
نقص الرؤية يقف بالفعل عائقا أمام تطوير العلاقات الاقتصادية بين مصر والصين. يقول «خوي وين»: «كل أنواع الصناعات موجودة في الصين. وبالتالي على مصر أن تقرر صناعة محددة مثل الغزل والنسيج ليبدأ التعاون منها. فالصين متقدمة في هذا المجال، ومن الممكن أن يكون هناك تعاون فيه. هناك صناعات كثيرة هنا، وعلى مصر فقط أن تحدد ما تحتاجه وفق رؤية شاملة».
يعطي «خوي وين» مثلا في هذا السياق: «مصر لا تملك الكثير من البترول، ولكن لديها الكثير من الغاز الطبيعي. من الممكن أن يكون هناك تعاون اقتصادي كبير مع الصين في هذا المجال. الصين بحاجة إلى كميات ضخمة من البترول والغاز معًا. وأعرف أن سواحل المتوسط بها كميات كبيرة من الغاز من الممكن أن تتعاون فيها الشركات الصينية.»
تستطيع مصر أيضًا استخدام «كنز الاتفاقيات» التي وقعت عليها في اجتذاب الاستثمارات الصينية. يقول «النجولي»: «عندنا كنز في مصر اسمه اتفاقية الكوميسا: 26 دولة أفريقية تستطيع أن تصدر لها بدون جمارك. مصر لا تستفيد من الاتفاقيات التي وقعتها. وهذه، مرة أخرى، مشكلة عدم وجود رؤية. فمن الممكن جذب استثمارات صينية لإقامة مناطق صناعية في مصر وتصدير المنتجات لهذه الدول بدون جمارك.»
تيانجين أم شنغهاي؟
على بعد 120 كيلومترا شمالي بكين تقع مدينة «تيانجين»، أحد أهم المدن الصناعية التي أقامتها الصين لاستيعاب الاستثمار الأجنبي قبل عقدين من الزمان، فأصبحت حاليًا من أهم المدن الصناعية في العالم.
في عام 1998، زار الرئيس المخلوع ورئيس وزرائه في ذلك الوقت، كمال الجنزوري، الصين. وفي هذه الزيارة تم توقيع اتفاقية إنشاء منطقة صناعية مصرية-صينية غرب السويس على غرار مدينة تيانجين الصينية. لكن الاتفاقية لم تتحول أبدًا إلى واقع.
يشرح «ياسر النجولي» أنه «حتى الآن لم تنته هذه المنطقة لأننا لم نكن جاهزين. كانت فكرة وقعنا عليها وانتهى الأمر».
ويشير «النجولي» أن هناك خلافا في الرؤية بين الصينيين والمصريين حول المناطق الصناعية انعكس على مشروع غرب السويس. فـ«الجانب المصري يعتبر أن مد ماسورة مياه أو صرف صحي في المنطقة الصناعية هو كل المطلوب من الحكومة لإنشاء المنطقة. أما الجانب الصيني فلا يرى الأمر كذلك، بل يرى أن بناء مدينة صناعية يعني بناء مدينة متكاملة من حيث الخدمات ومقومات الحياة، بما فيها المدارس والمستشفيات والمباني السكنية».
وبالإضافة إلى هذا الاستسهال، فإن الانبهار المصري بالنموذج الأمريكي يلعب دوره أيضًا. يحكي النجولي أنه «عندما جاء الوفد المصري برئاسة الرئيس السابق إلى الصين عام 1998، تحدث مع القادة الصينيين حول تطوير منطقة غرب السويس لتكون مثل منطقة تيانجين. ولكن بعد أن زار الوفد شنغهاي ووجدها أكثر تطورًا في الصناعة، طلب تركيز التعاون أكثر مع قادة شنغهاي. المصريون فضلوا شنغهاي لأنهم رأوا فيها نموذجًا غربيًا. المصريون مبهورون بالولايات المتحدة».