تمثل التجربة الصينية في النهضة مصدر إلهام للكثيرين. إلا أن قليلين من غير الصينيين يفتشون عن أولئك الذين دفعوا ثمن «النهضة» غاليًا من حياتهم وراحتهم. لكن في المقابل، يدرك الشعب الصيني حجم التضحيات جيدًا ولا ينكرها، بل يفتخر بهاKرغم ما بها من ألم.
في قرية «بيتسون» بالضاحية الشمالية الشرقية لمدينة بكين يقع متحف ثقافة وفنون العمالة المهاجرة. في هذا المكان تحتفظ الصين بتراث الوجه الآخر من تجربتها – الوجه الذي حفر فيه الزمن آلام التجربة وملامح الشقاء.. وجه العمال الفلاحون.. أكثر من دفع ثمن النهضة الصينية.
منذ أن صار مسموحًا للعمال من أصول فلاحية (العمال الفلاحين كما يسميهم الصينيون) بالعمل في المدن عام 1984 بعد تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية، شغل الملايين منهم الأعمال التي يعتبرها سكان المدن مرهقة وغير لائقة، مثل العمل في البناء والمناجم. وهكذا تزايدت أعداد العمال الفلاحين. ففي عام 1992 كان عددهم 60 مليونًا، تضاعفت في عام 2003، ثم وصلت في 2010 إلى 210 مليون عامل فلاح.
يقول تقرير للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، نشرته وكالة الأنباء الصينية شينخوا، إن العمالة المهاجرة المتنقلة في الصين ساهمت بـ21% من إجمالي الناتج المحلي للصين خلال الثلاثين عامًا الماضية. ورغم هذه المساهمة الكبير للعمال الفلاحين الصينيين في الناتج المحلي، إلا إن حياتهم لم تخل من بؤس شديد.
في المتحف الذي يوثق لحياتهم ويضم بعض من مقتنياتهم وقصاصات الصحف التي تحدثت عنهم، بالإضافة إلى بعض الرسائل الشخصية وشكاوى المطالبة بأجور متأخرة، قد يكتشف المرء الوجه المأساوي لهذه التجربة. فحسب تقرير وكالة شينخوا، ظل العمال الفلاحون حتى عام 2005 يعملون بدون حماية أو اتحادات تمثلهم أو تأمين ضد إصابات العمل أو الأمراض أو أوقات عمل محددة.
معظم هؤلاء كانوا يعملون ساعات طويلة، إلا أن المشكلة الأكبر التي كانت تواجههم عند العودة لمدنهم وقراهم قبيل عيد الربيع في فبراير من كل عام، هي الحصول على أجورهم. لكن في 2003 أطلقت الحكومة الصينية حملة لتضمن حصول العمال الفلاحين على حقوقهم، وذلك قبل أن يؤسسوا أول اتحاد للعمال المهاجرين في عام 2005.
إدراك الصينيون لحجم ما قدموه من تضحيات جعلهم يصرون على التأكيد أن دولتهم التي يراها العالم عملاقًا في الساحة الدولية ليست أكثر من مجرد دولة نامية. يقول الدكتور «تشو وي ليه» عضو لجنة العلوم الاجتماعية بوزارة التعليم الصينية إن: «الإحصائيات تشير أن هناك تقليل للفجوة بين الفقراء والأغنياء، ولكن هذا لا يكفي. مازال هناك فقراء في غربي الصين وبعض المناطق النائية... الصين حاليًا ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ولكن معدل دخل الفرد مازال منخفضا، وهذه مشكلة كبيرة يجب حلها. أيضًا نسبة الشباب المتعطل قد تكون مقبولة – أقل من 4% – وكذلك تقوم المؤسسات الحكومية بصرف بدل بطالة لهم شرط أن يبدوا رغبة في العمل، إلا أنها تظل مشكلة يجب حلها«.
من ناحية أخرى، تشير تقارير مصلحة الدولة الصينية للإحصاء إلى زيادة متوسط الدخل لسكان المدن والريف في الصين في الخطة الخمسية الحادية عشرة (2006- 2010)، بمعدل 8.9%. حيث وصل متوسط الدخل السنوي الصافي لسكان الريف إلى 5919 يوانًا (اليوان الصيني يعادل 97 قرشًا مصريًا) في نهاية الخطة، بعد أن كان 3255 يوانًا في بدايتها، فيما وصل متوسط الدخل لسكان المدن إلى 19109 يوانًا، بعدما كان في بداية الخطة الخمسية 10493.
في هذا الإطار يرى «حسين إسماعيل» نائب رئيس تحرير النسخة العربية من مجلة الصين اليوم أن عدم التوازن في زيادة دخول الأفراد أحد أهم المشكلات التي تواجه التجربة الصينية. يقول «إسماعيل»: «الزيادة في دخول الأفراد غير متوازنة من حيث القطاعات المهنية ومن حيث التوزيع الإقليمي. فالزيادة التي حققها العاملون في قطاعات معينة، مثل موظفي الشركات المقامة باستثمارات أجنبية والمنخرطين في الأعمال التجارية، أعلى من العاملين في القطاعات الحكومية التقليدية وفي التدريس وفي مجال الصحة. كما أن زيادة دخول سكان المناطق الشرقية والجنوبية ارتفعت بمعدلات أعلى كثيرًا من دخول أهل مناطق شمال وشمال غربي الصين».
ولذا، ففي الجلسة الافتتاحية للدورة الخامسة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني في مارس الماضي أكد رئيس مجلس الدولة «ون جيا باو» على التوجه نحو صياغة خطة جديدة لإصلاح نظام توزيع الدخل في محاولة لتضييق الفجوة بين دخول المواطنين. قال «ون» إن حكومته ستعدل ضرائب المجموعات ذات الدخل المرتفع وستوسع المجموعات ذات الدخل المتوسط وسترفع من دخول المجموعات ذات الدخل المنخفض.
وفي حوار مع شبكة الصين، يقول رئيس مركز دراسات الصين وآسيا، سفير سوريا الأسبق في بكين «محمد خير الوادي»، إن التفاوت الكبير في توزيع الثروة وانتشار التلوث «كلها أعراض طبيعية تظهر في أي بلد ينمو بسرعة». ويضيف عميد السلك الدبلوماسي العربي الأسبق في بكين: «إلى جانب التفاوت الكبير في الدخل، يمثل عدم توازن المناطق في النمو الاقتصادي أهم سلبيات التجربة الصينية وأكبر أمراضها الاجتماعية والاقتصادية التي بدأت تنتشر على هامش التطور الاقتصادي والاجتماعي«.
ويرى «إسماعيل» أنه رغم تحقيق الصين لمعدلات نمو كبيرة في الناتج المحليKفإن «المواطن الصيني العادي يرى إجمالي الناتج المحلي لبلاده متجسدًا في ناطحات السحاب التي ترتفع في مدن الصين والتجمعات السكنية الفخمة التي تتناثر على حواف المدن، والطرق العالية الجودة التي تربط بين أنحاء البلاد، والفعاليات العالمية الضخمة التي تحتضنها الصين، وتنفق الحكومة بسخاء من أجل استضافتها، وغيرها من المظاهر التي تعكس ارتفاع القدرات الاقتصادية لدولة الصين».
ولمواجهة انعدام التوازن في توزيع ثمار التنمية، تحاول الحكومة الصينية تقليل الفجوة في المرتبات بين مواطنيها لإشعارهم بزيادة الناتج المحلي الحقيقي لبلدهم. لذا قررت الحكومة إعطاء الأولوية في الخطة الخمسية الحالية لتحسين معيشة الشعب الصيني. ففي الدورة الخامسة للمجلس الوطني الحادي عشر لنواب الشعب الصيني أعلن وزير المالية الصيني أن حكومته قررت تخصيص 1.38 تريليون يوان في ميزانية 2012 لدعم التعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وخلق فرص عمل والإسكان المنخفض التكاليف والثقافة وغيرها من المجالات المتعلقة بمعيشة الشعب، بزيادة 19.8% عن الميزانية المخصصة للعام الماضي.