الأدباء: أقرب لـ«بيرم».. وملأ فراغاً تركه «السعدنى»
عبر عدد من الأدباء عن عميق حزنهم لرحيل عامر نظراً لما كان يملكه من موهبة فريدة وأسلوب شيق ينقل من خلاله الفكرة ببساطة.
وقال يوسف القعيد إن «رحيله خسارة كبيرة للكتابة الساخرة فى مصر نظرا لما كان يملكه من موهبة كبيرة استطاع من خلالها أن يؤثر فى الناس ويرسم البهجة على وجوههم بأسلوب شيق». وأضاف أنه «يعرفه منذ أن كان ضابطا فى القوات المسلحة وفاز وقتها فى إحدى مسابقات النصر التى كانت تنظمها القوات المسلحة.. ومنذ ذلك الحين بدأ مسيرته فى الكتابة، واستطاع أن يحفر اسمه فى الأدب الساخر».
وأوضح القعيد أنه «عندما تجلس مع جلال تجد كتابته مثل كلامه فهذا كان يحقق عمقا كبيرا فى شخصيته ويذكره بالشاعر بيرم التونسى عند كتابته للنثر» وحيث كانت كتابته تعكس ما يتعرض له فى الحياة اليومية عملا بمقولة شفتشنكو الشاعر الروسى الكبير «إذا فقدت الكتابة الصدق فقدت القدرة على الوصول إلى الناس والتأثير فيهم». وناشد القعيد المسؤولين بالمجلس الأعلى للثقافة جمع مقالات وكتابات الراحل جلال عامر تكريماً له.
من ناحيته قال الروائى الكبير جمال الغيطانى إن الراحل كان موهبة كبيرة، فرحيله خسار كبيرة للأدب العربى ككل. وأضاف أن جلال عامر بدأ الكتابة فى سن متأخرة ولكن سرعان ما حفر بصمة عميقة بكتاباته الساخرة. واستطرد أنه كان يعيد قراءة العمود أكثر من مرة، وذلك لجمال أسلوبه فى الكتابة.
وصف الكاتب الكبير لويس جريس رحيل جلال عامر بالصدمة نظرا لما كان يملكه من موهبة فريدة واستطاع أن يملأ الفراغ المتواجد على الساحة خاصة بعد وفاة الكاتب الكبير محمود السعدنى فتميز جلال بأسلوبه الشيق الدى نقل من خلاله الفكرة ببساطة إلى القارئ. وأضاف أننى شخصياً أشعر بخسارة كبيرة لفقدان الكاتب الكبير.
«البرادعى»: سنفتقد وطنيته.. «فضل»: مات حزيناً على مصر.. «حبيب»: رحل بسبب مشهد عبثى
حفلت مواقع التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت، خاصة «فيس بوك» و«تويتر»، بعبارات رثاء مؤثرة للراحل الكاتب الكبير جلال عامر، أشادت فيها بوطنيته وقدرته على التعبير عن قضايا الأمة وهموم البلد، وأكدت أن «الساخر رحل.. وبقيت المسخرة».
فى صفحته على «تويتر» نعى الدكتور محمد البرادعى، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، جلال عامر، قائلاً: «رحم الله المبدع جلال عامر، سنفتقد وطنيته النقية وبصيرته الثاقبة التى أثرت عقولنا ومسّت قلوبنا»، مضيفاً: «ستبقى ذكراه معنا دائمًا».
فيما رثى الشاعر الفلسطينى مريد البرغوثى قلب الكاتب الراحل قائلاً: «توقف قلب الرجل الذى له قلب».
وقال الروائى خالد البرى: «جلال عامر توفى وهو قادر فى جملة واحدة على أن يبلور أفكار جيل، ويفضح التغابى والاستهبال، ويعرى التواطؤ والتآمر بين الانتهازيين وأصحاب الامتيازات».
وعبر الصحفى والشاعر ياسر الزيات عن حزنه الشديد لوفاة عامر وقال: «هو جلال عامر هيتدفن فين؟ فى إسكندرية طبعا أنه لو خرج منها يتوه، لكن كمان هيتدفن فى كل حتة فى مصر». أما القطب الإخوانى السابق محمد حبيب فقال: «الكاتب الساخر جلال عامر مات.. لكن بسبب مشهد عبثى مجنون.. رحمه الله رحمة واسعة».
أما «رامى»، نجل الفقيد فقد نعاه قائلاً: «جلال عامر لم يمت، فكيف تموت الفكرة؟! الفكرة مقدر لها الخلود.. وداعا يا أبى، ألقاك قريباً».
فيما ودَّعه الكاتب والصحفى بلال فضل قائلاً: «الوداع يا صديقى الكبير، سأفتقدك كثيرا، سأفتقد ضحكاتنا العالية فى قهاوى بحرى، سأفتقد إنسانيتك وحزنك وقدرتك الدائمة على إدهاشى». مضيفاً: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. البقاء لله. يا عينى على حظك يا مصر، مالكيش نصيب فى بهجة جلال عامر. مات حزين عليكى. الله يرحمه، سلام يا عم جلال».
فيما قال الكاتب محمد يسرى سلامة: «آخر وصية للأستاذ جلال عامر رحمه الله: التبرع بقرنيته لمصابى الثورة، وسوف تُنفذ الوصية بإذن الله تعالى.. لا أملك سوى البكاء». ورثاه المذيع أحمد العسيلى بقوله «إن رثاكَ يا عامرَ القلبِ.. بالدموعِ أم بالضحِكات؟! رحم الله جلال عامر».
أما الناشطة السياسية والصحفية نوارة نجم فقالت: «حالة بكاء هستيرية أنا وأمى.. جلال عامر».
أما الصحفى خلف على حسن فرثى الراحل بعبارات: «رحل الساخر وبقيت المسخرة»، «ما أمتع كتاباتك التى رأينا فيها الحياة مقابل الموت والضحك وسط الأحزان»، «الله يرحمك يا عم جلال.. الساحر الباكى يرحل ويتركنا فى ضباب الكلمات».
أما الأديب الكبير إبراهيم عبدالمجيد فكتب: «تتجسد مشاعرى فى صور صعبة الآن بفقدك يا جلال. تصور، أنا أرى أيادى سوداء تجمع البهجة من الفضاء وتمضى بها بعيدا لتلقى بها فى النهر». وكتب الكاتب الساخر الشاب محمد فتحى رسالته للراحل باللهجة السكندرية «إحنا كمان (بنحبوك) يا عم جلال، وهنفضل (نقرولك)، وبالنسبة لمعادنا فسامحنى.. مالحقتش أجيلك فى إسكندرية.. بس ربنا لما يأذن هجيلك إن شاء الله.. ربنا يرحمك ويغفر لك، ويضحكك فى الآخرة فرحا بما آتاك ويهون علينا من بعدك وبعادك يا عم جلال..الفاتحة على روح أمير الساخرين الكاتب الشريف».
أما الأديبة الشابة هبة خميس فكتبت بالعامية أيضاً «جلال عامر استريح أخيرا من الغباء والكره اللى ف قلوب المصريين واللى سممله حياته.. الله يرحمه ويرحمنا.. الراجل اللى بيضحك كل الناس مات حزين».
أصدقاؤه: كان سريع البديهة والبكاء يحترم معارضيه ومهموماً بالوطن والسياسة
قال الدكتور عبدالفتاح أحمد عبدالفتاح، أقرب أصدقاء الكاتب الراحل جلال عامر: «التقيت بالكاتب الكبير، منذ 20 عاماً فى حزب التجمع، ولفت نظرى وتقربت منه، خاصة أنه كان إنساناً طيباً، رهيف الحس، ابن بلد، وجدع وراجل، وربما كانت خلفيته العسكرية أحد أهم الأسباب التى منحته هذه الشخصية التى تجمع بين الرجولة والحس المرهف، لقد كان جلال صاحب فكرة، وكان له فى كل تصرف فكرة، وهو نفسه كان فكرة، فقد كان يتمتع بثقافة عالية، استمدها من قراءته لكل أمهات الكتب.
وتذكر «عبدالفتاح» مواقف كثيرة للفقيد فى حسه المرهف وقربه من البسطاء، حيث كانا يجلسان على أحد المقاهى، فحضر إليهما شاب، وتبين أنه خريج جامعة، وهو يبيع البطاريات واللعب الصينية، فانهار فى البكاء حزناً على هذا الشاب خريج الكلية، الذى يتسول على المقاهى، والموقف الثانى هو أن امرأة منتقبة تعرض لها البعض بالسب فشاهد هو هذا الموقف، فثار، وهب ينهر هؤلاء، رغم أن الجماعات الإسلامية فى هذا الوقت كانت أهدرت دمه، لكن لم يمنعه ذلك من الدفاع عن المنتقبة.
وأضاف «عبدالفتاح»: «لقد كان سريع البديهة، سريع البكاء، يحترم كل من يختلف معه فى الرأى، وكان مهموماً بالوطن والسياسة، وربما كان ذلك هو الذى أثر على هيئته التى تظهره أكبر بكثير من سنه الحقيقية، والتى تتراوح بين 62 و63 عاماً، لأنه يفكر ف يالوطن وهمومه 24 ساعة.
وتابع «عبدالفتاح» أن أسرة جلال المكونة من زوجة و3 أولاد وبنت كان لها دور كبير فى حياته، خاصة زوجته شأنها شأن كل زوجات العباقرة، فلا يمكن أن يكون جلال بهذه القيمة والقامة، إلا إذا كانت وراءه سيدة عظيمة، توفر له الجو الهادئ الذى يساعد على الإبداع، فكان دائماً يذكرها بالخير. وأكد عبدالفتاح أن خلفية الكاتب الراحل وثقافته كانتا تجعلاه يرى الواقع، مبكراً، ويستشرف المستقبل قبل الآخرين، ولذلك كان يرى أن تأخر تسليم السلطة سيجعل الناس تثور، وأضاف: «كان يتفق كثيراً معى ومع أصدقائنا، لأننا كنا نجتمع على ثوابت كثيرة، ولكن كان لكل منا اختلافاً فى بعض التفاصيل».
وكشف «عبدالفتاح» تفاصيل الساعات الأخيرة منذ إصابته بالأزمة ولحظات الوفاة بقوله: «كنت معه عندما اتصل أحد الأصدقاء وأخبره بأن المصريين يضرب بعضهم البعض بالرصاص فى رأس التين، فسقط مغشياً عليه منهاراً، ونقلناه إلى المستشفى سريعاً، وهناك تم تشخيص الحالة على أنها إغماءة سكر، ونظراً لأن غيبوبة السكر تغطى على أى شىء آخر، فلم يشعر أحد بإصابته بأزمة قلبية نتيجة جلطة فى القلب، لنفقد أحسن وأرجل وأعظم وأنبل رجل فى الدنيا».
بروفايل
فتح عينيه على «يحيا العسكر» وأغمضهما على «يسقط العسكر».
تفتحت عيناه على ثورة 23 يوليو 1952، والناس تهتف «يحيا العسكر». وأغمضت عيناه مع ثورة 25 يناير والناس تهتف «يسقط العسكر»، الثورة الأولى لم يرض عنها والثانية لم يدرك نتائجها، لكن الكاتب الكبير «جلال عامر» الذى رحل عن دنيانا، أمس الأول، كان الشاهد الأول على صراع الثورتين، وعندما شاهد أنصاراً مازالوا منحازين للثورة الأولى يتشاجرون مع شباب الثورة الثانية، لم يحتمل قلبه الصدمة ولم يصدق ما رأى ودفع حياته ثمناً وحباً بلاده التى علمته الكتابة وتدبيج القصائد فيها والأشعار والمقالات والتى من أجلها خاض 3 حروب «نكسة واستنزاف وانتصار». ما بين الثورتين شهدت مصر أحداثاً وحوادث تجعل الولدان شيباً، وهكذا كان رأس الأستاذ جلال ناصع البياض مثل قلبه العليل، لكنه كان يتحدى الحوادث كلها بالفكاهة والسخرية اللاذعة، التى لا تتوقعها أبداً، فهو رائد من رواد مدرسة الفكاهة التى تعتمد على التداعى الحر للأفكار والتكثيف الشديد، أو ما يسميه علماء الفلسفة قانون التداعى والسببية، وإذا سألت أحد علماء الفلسفة الكبار: من هو الشخص الذى سخر هذا القانون لصالحه وجعله عجينة سهلة بين يديه؟ سيقول لك «جلال عامر» الذى تخرج فى الكلية الحربية ودرس الفلسفة فى كلية الآداب والقانون فى كلية الحقوق، لكنه تجاوز المدارس الثلاث، وأصبحت له مدرسة هو ناظرها ومعلمها والتلميذ الوحيد فيها.
كان بيننا الخميس الماضى فى صالة التحرير مبتهجاً كعادته متألقاً كما عرفناه، ووقفت معه نتحدث حول كتابه «مصر على كف عفريت»، وهو كتاب ساخر صدر عن (دار العين). الكتاب - كما يقول المؤلف - هو محاولة لبحث حالة وطن كان يملك غطاء ذهب فأصبح من دون غطاء بلاعة لماذا وكيف؟ فقد بدأت مصر «بحفظ الموتى، وانتهت بحفظ الأناشيد، لأن كل مسؤول يتولى منصبه يقسم على أنه سوف يسهر على راحة الشعب، من دون أن يحدد أين سيسهر وللساعة كام. فى مصر لا يمشى الحاكم بأمر الدستور، بل بأمر الدكتور، ولم يعد أحد فى مصر يستحق أن نحمله على أكتافنا إلا أنبوبة البوتاجاز، فهل مصر فى يد أمينة أم فى أصبع أمريكا أم على كف عفريت»؟ صفحات الكتاب محاولة للإجابة عن هذا السؤال الذى يفجر الضحكات على واقعنا المر. وذكرته بأول مقال قرأته له كان منشوراً فى جريدة «البديل» التى اختفت من الساحة الآن وكان مؤسسها هو الدكتور محمد سيد السعيد رحم الله الاثنين، فقد جمعهما ثلاثة أشياء: حب الوطن والفكرة الماركسية والكلمة الحلوة.
واختتم جلال عامر أعماله بمقال نشره فى روايته اليومية فى «المصرى اليوم» التى كان ينشرها بعنوان «تخاريف»، مطالباً بعقد اجتماعى جديد للمصريين يعيشون فى ظله.
خاض 3 حروب.. ثم استراح ليبدأ حرب الـ«3 وجبات
رحل من كان يضحك المصريين على آلامهم ويحول أوجاعهم اليومية إلى نكتة، لم يحتمل قلبه رؤية المصريين يقتلون بعضهم البعض بعد أن كانوا قبل عام واحد فقط «إيد واحدة»، مات جلال عامر ولم يتعد الستين عاماً بأزمة قلبية، وكانت آخر كلماته التى نقلها ابنه «رامى»: «المصريين بيموّتوا بعض»، لم يجد من العبارات الساخرة ما يعبر به عما رآه فى آخر أيامه، واستسلم قلبه للحزن والإحباط بعد أن كان دائماً رمزاً للصمود والسخرية من مصائب القدر، ورغم وصيته بالتبرع بقرنيته إلى مصابى الثورة بعد وفاته فإن الوصية لن تنفذ لعدم وجود بنك قرنية فى الإسكندرية!
ولد جلال عامر مع ثورة يوليو فى 1952 وتخرج فى الكلية الحربية وشارك كضابط فى حرب أكتوبر 73 وشارك فى تحرير مدينة القنطرة شرق، ثم درس القانون فى كلية الحقوق والفلسفة فى كلة الآداب، ليبدأ مشواره من جريدة «القاهرة» التى تصدر عن وزارة الثقافة، ومع كتابة القصة القصيرة والشعر والمقالات المتنوعة فى عدد من الصحف مثل «المصرى اليوم» و«الأهالى» و«البديل» وجريدة «العرب» القطرية ليكون صاحب مدرسة فى الكتابة الساخرة تعتمد على التداعى الحر للأفكار والتكثيف الشديد.
آخر ما قاله «عامر» على موقع «تويتر» إن «مشكلة المصريين الكبرى أنهم يعيشون فى مكان واحد، لكنهم لا يعيشون فى زمان واحد».
ويعرّف «عامر» نفسه فى كتابه «مصر على كف عفريت» بأنه كان ضابطاً فى الجيش، خاض 3 حروب ضد إسرائيل، لكنه يخوض الآن «حرب الثلاث وجبات»، إذ يخرج المواطن لشراء الخبز وقد يعود أو لا يعود بعد معركة «الطوابير»، وكتب «عامر» عن زيارة السيد الرئيس مبارك إلى قبرى جمال عبدالناصر وأنور السادات، وهى الزيارة السنوية التى يحرص عليها، متخيلاً ما الذى يمكن أن يقوله أمام قبر كل منهما، هكذا سيقول أمام قبر عبدالناصر: «طبعاً إنت عارف أنا لا عايز أزورك ولا أشوفك بس هى تحكمات السياسة اللعينة. حد يا راجل يعادى أمريكا؟ ويحارب المستثمرين. على العموم ارتاح، أنا بعت كل المصانع اللى إنت عملتها، والعمال اللى إنت مصدعنا بيهم أهم متلقحين على القهاوى...». وأمام قبر السادات، سيقرأ الفاتحة ثم يمسح وجهه وينصرف، هذه الحكاية تلخص فعلاً ما أصاب مصر من تحولات، وتجيب عن سؤال: كيف تحولت من «أم البلاد» إلى «أم الفساد».