«هل ستقتلع تركيا عيني الأسد؟».. هذا كان العنوان الأبرز للصحافة في بداية أكتوبر 1998، بعد أن أعلنت تر كيا وقتها الحرب على سوريا لحماية أمنها القومي وتخليص الشعب السوري من حكم حافظ الأسد !
كان الخريف ينسل من سهول وجبال الحدود التركية السورية التي تمتد لأكثر من 700 كيلو متر، وهبات الرياح الغربية القادمة من البحر المتوسط، رغم برودتها لم تعد كافية لإطفاء اشتعال المنطقة.
فالحكومة التركية تحشد جنودها وآلياتها تجاه دمشق، تزامنا مع تهديدات متواصلة منذ أشهر، بعد رفض دمشق التخلي عن الزعيم الكردي عبدالله أوجلان، وقد كان يتخذ وجمهوره من شمال سوريا، ذي الأغلبية الكردية أصلا، ملجأ لهم من بطش العثمانلي.
لا يعرف على وجه التحديد منذ متى بدأ وجود أوجلان في سوريا، إلا أنه حتما يمتد لأكثر من 10 سنوات من تاريخ هذه الأزمة، وفجأة ظهر الانزعاج التركي من وجوده بعد أشهر قليلة من الاتفاق العسكري التركي الإسرائيلي.
الحجة التي ساقتها تركيا، هي الهجمات المتكررة على جيشها، من قبل من تسميهم متمردين أكرادًا.
الآن دعونا لا ننسى أنه بعد أكثر من 20 عاما على اعتقال تركيا لأوجلان، مازالت تركيا تعاني من نفس الهجمات، وتدعي على الشمال السوري نفس الادعاءات!
والأغرب أن المتتبع للشأن الكردي يدرك، بالضرورة، أن أوجلان كان القائد الكردي الأكثر انحيازا للحوار والخيار السلمي!
جملة «اقتلاع عيني الأسد» الموجهة للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ظهرت للمرة الأولى في الصحافة التركية في نهاية سبتمبر من عام 1998، بعد الإعلان بشكل واضح، من قبل الحكومة التركية عن نيتها التدخل العسكري في سوريا.، لاقتلاع أوجلان وحاميه «الأسد».
اللافت كان رد الفعل السوري، والذي جابه الحشد غير المسبوق للآليات التركية على الحدود السورية بتحريك آلياته وصواريخه، ولكن على عكس ما تشير إليه البوصلة المنطقية.
فبدلا من تحريك القوات نحو الشمال، حيث توجد الحدود التركية، توجهت آليات الأسد نحو الجنوب، المحتل من إسرائيل.
ووجهت الدبلوماسية السورية رسالة واضحة لكل الأطراف، مع أول دبابة ستدخل الحدود السورية، ستتلقى تل أبيب الدفعة الأولى من الصواريخ!.
وعلى الرغم من أن البعض رأى في الرد السوري نوعا من الانفصام عن الواقع، فإن تجارب التاريخ المتكررة، أثبتت أن حافظ الأسد كان يعرف الكثير عن جاره التركي.
صباح 4 أكتوبر 1998 طار الرئيس الاسبق حسني مبارك على عجالة، للقاء الرئيس السابق حافظ الأسد، بعد أن وصلت معلومات بأن الضربة التركية لسوريا أصبحت وشيكة، وفشلت معظم الأطراف الإقليمية والدولية في نزع فتيل الأزمة التي كانت ستؤدي بسوريا ربما لمصير مشابه لما هي عليها اليوم.
دعونا لا ننسى أن وقتها لم يكن أحد يتخيل مصيرا مشابها للمنطقة، في ظل عراق مقاوم للعقوبات، وسوريا جديدة وجوار عربي مستقر...
آنذاك.
أذكر وقتها أن سكان محافظات الشمال، تحديدا حلب إدلب، سارعوا إلى المحال لتخزين المؤن، الأمهات لشباب في سن التجنيد، بدأن نوبات النحيب المبكر على مصير أولادهن الذي يسير إلى المجهول.
في ذلك الوقت تحرك مبارك الذي لم يكن الأقرب للأسد، ولا يمكن أن نقول إن علاقتهما على المستوى الشخصي كانت يوما في أفضل حالاتها.
تحرك فقط بدافع من دور مصر ومكانتها، التي إن لم تخترها هي لاختيرت لها، واستطاع مبارك أن يخرج بسوريا من الأزمة، ويصل بالطرفين التركي والسوري إلى طاولة المفاوضات والحوار، بدلا من لغة الحرب والدمار.
هكذا أنقذت مصر سوريا مرة، ليست الأولى على أية حال، من حرب لن يخسر فيها إلا الشعب السوري. لم تفكر وقتها في تصفية حسابات أو تكتلات، لم تفكر بمقاييس المكسب والخسارة السياسية.
لتلعب دورها القدري في الشرق الأوسط، كحارس وحام لاستقرار وتوازن المنطقة، التي تعجز القوى العظمى عبر العصور عن فهم كنهها.
اليوم بعد ما يقرب من 22 عامًا، من نزع فتيل الحجة التركية للتوسع من جديد في المنطقة العربية، تدخل تركيا من باب ليبيا، المطل- مجددا كما سوريا- على الأمن القومي المصري.
تدخل بوجوه وحجج مختلفة، وبتحالفات وموائمات مغايرة. تدخل مدعية البراءة والدفاع عن النفس.
ومرة أخرى تتدخل مصر لإسقاط ورقة التوت الزائفة عن عورة حلم التوسع العثماني، مرة أخرى تنحاز مصر إلى حماية الشعب الليبي من مزيد من الدمار، بعيدا عن الحسابات السياسية والمواءمات.
فعندما يقول الرئيس السيسي إن مصر لن تسمح لأحد بالسيطرة على ليبيا، فهو ينطلق أولا من حس قومي تجاه الشعب الليبي، قبل أن يكون ذلك هو الضمانة لأمن مصر والمنطقة.
أعرف أنهم أقنعوكم بأن مصر تدعم طرفا دون آخر، إلا أن المتعمق في الشأن الليبي يعرف أن مصر دائما ما كانت تقف على مسافة واحدة من كل الأطراف، وتدعم كل جهد لمصلحة الشعب الليبي،. يعرف أن كلا من طرفي الصراع الليبي كانا في القاهرة قبل هذه الأزمة بأسابيع، قبل أن يدخل بينهما الشيطان العثماني.
يعرف أن مصر لا يحركها إلا دورها القومي الذي يحاول جاهدا أن يجد طوق نجاة لشعوب المنطقة التي دمرت مؤسساتها ومقدراتها، ومزقت أواصر شعوبها، ولم يعد لها بعد الله من معين، إلا هذا الحس العروبي الفطري في السياسة المصرية.
هذا الحس الذي يبقى جذوة الأمل التي يتعلق بها كل متأمل خير في مستقبل العروبة والمنطقة!