رحل عن عالمنا رجل بحجم أمة.. رجل من نسيج خاص، نسج الإمارة بالوراثة مع الإمارة بأعماله السامية العابرة للأوطان والأعراق والألوان والأديان والمذاهب.
رجل بقدر ما كان سعوديا خالصا، كان مصريا مخلصا، وعروبيا مجددا، وإنسانيا حالما.
صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز آل سعود رحل عن عالمنا الأسبوع الفائت بجسده الطاهر، لكنه سيظل باقيا ما بقيت أعماله التي تملأ مجلدات إذا ما حاولنا أن نحصيها.
وعلى ما يبدو كان يحمل سمات النباهة والحكمة منذ سنوات عمره المبكرة، مع دفع والده الملك المؤسس لأن يختاره أول وزير للمواصلات وهو لم يتجاوز العشرين، وعقب تولي الملك سعود مقاليد الحكم حدثت خلافات على كيفية إدارة البلاد، وفي هذه الفترة كانت الأفكار الاشتراكية تلقى قبولا واسعا في أوساط الشباب العربي، وكان للزعيم الراحل جمال عبدالناصر حضور طاغٍ كمُلهم للأفكار الثورية العروبية، في تلك الأجواء أسس الأمير طلال في عام ١٩٥٨ حركة الأمراء الأحرار، التي دعت إلى إصلاحات تؤسس لإنشاء حكم دستوري وبرلماني ضمن دستور يحدد صلاحيات الملك ويعطي حقوقا واضحة للمواطنين، ورغم توليه مسؤولية وزارة المالية عام ١٩٦٠ لم يتوقف طرحه الإصلاحي، ما دفع الملك سعود لسحب جواز سفره الدبلوماسي وتجميد أمواله، بعدها ظهر في مؤتمر صحفي في العاصمة اللبنانية في العام ١٩٦٢ معلنا عن البرنامج الإصلاحي للأمراء الأحرار، وعقب عدة أشهر حل ضيفا على جمال عبدالناصر في ظل خلافه الحاد مع قادة المملكة.
بعد سنوات من مكوثه في القاهرة سافر إلى بيروت، وهناك جرت مفاوضات مع الملك فيصل، عاد على إثرها إلى المملكة، وتحول من النشاط السياسي إلى النشاط التنموي.
وبعدما لاحظ القائمون على منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) أن توجهات الأمير طلال تتلاقى مع نشاطات المنظمة، اختارته في منصب هو الأول من نوعه: المبعوث الخاص لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، للقيام بتسليط الضوء ولفت الاهتمام لقضايا الطفولة، وكان لدوره أثر واضح على مسيرة اليونيسف وأدائها.
وكان الأمير طلال قد بادر في العام ١٩٨٠ بإنشاء برنامج الخليج العربي للتنمية (أجفند) بدعم من دول مجلس التعاون الخليجي للعمل في مجال التنمية على الصعيد الدولي، وقد ساعد البرنامج منذ تأسيسه في دعم وتمويل ما يزيد على ألف مشروع في أكثر من مائة دولة نامية.
وبعد لقاءات متعددة مع خبراء ومتخصصين في مجالات العلوم المختلفة، قام سمو الأمير طلال بتأسيس المجلس العربي للطفولة والتنمية منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، لإعداد طفل عربي قادر على المشاركة في تنمية مجتمعه والتعامل مع المتغيرات العالمية المتسارعة.
وإدراكا من الأمير طلال أن تعليم المرأة من شأنه أن يطلق الطاقات الكامنة لها، كانت خطوته الرائدة في تأسيس أول مدرسة للبنات في المملكة العربية السعودية، بهدف خلق جيل من النساء المتعلمات، وسعيا لتأسيس وعي جديد يعطي للمرأة العربية حقوقها عبر رؤية جديدة وحضارية لمكانتها في المجتمع جاءت مبادرته لتأسيس مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث (كوثر)، الذي يسعى إلى المساهمة في إنشاء بيئة عربية يتساوى فيها الرجال والنساء على مستوى المبادئ والممارسات، وتتلاشى فيها الفوارق بين الجنسين.
وفي إطار إيمان سموه بدور التعليم جاءت مبادرة إنشاء الجامعة العربية المفتوحة المرتبطة بالجامعة العربية المفتوحة، الأولى من نوعها في منطقتنا العربية في مجال التعليم عن بعد، وتطبق أحدث الوسائل التكنولوجية، وافتتح لها فروعا في العديد من العواصم والمدن العربية، ويوجه سموه بالحرص على أن تكون الرسوم الدراسية أقل ما يمكن، ويقدم العشرات من المنح المجانية للطلاب غير القادرين، فضلا عن منح للطلاب الفلسطينيين.
وتطبيقا عمليا لانحيازاته الاجتماعية للفقراء، وجد في تجربة المفكر الاقتصادي البنجلاديشي، محمد يونس، وسيلته لدعم الفئات الاجتماعية المهمشة عبر تقديم قروض ميسرة ودون ضمان مالي من خلال بنك الفقراء، ولأن سموه كان حريصا على أن تكون انطلاقة أفكاره التنموية من مصر فقد استضاف المفكر الاقتصادي محمد يونس في مؤسسة الأهرام لعرض فكرته التي كانت وراء حصوله على جائزة نوبل، وشهدت الكثير من العواصم العربية فروعا للبنك.
إن الأمير طلال كان محبا لمصر، وكثيرا ما ردد وصية والده الملك المؤسس بدعم مصر بكل السبل الممكنة، حيث إن في قوتها قوة للمملكة والأمة العربية، وكان يرى أن تقدم العالم العربي وتطوره السياسي والاجتماعي يبدأ من مصر، بحكم ثقلها الحضاري ومكانتها الجيوسياسية، فضلا عن امتلاكها لقوام سكاني هو الأكبر في العالم العربي، وكثيرا ما كان يؤكد على أنه إذا نهضت مصر نهضت الأمة العربية بكاملها.
ومن حسن حظي أن اخترت ضمن اللجنة الإعلامية لسمو الأمير طلال، حيث أتيحت لنا لقاءات متعددة على مدى ما يقرب من عشر سنوات، وكنت حريصا في تلك اللقاءات على أن يستمع لآرائنا في كافة القضايا، ووضح لنا من خلال هذه اللقاءات سعة أفقه وعمق ثقافته وإيمانه الراسخ بالديمقراطية، وتغليبه الحوار على الصدام، وكانت اللقاءات تمتد لساعات يطلعنا خلالها على الكثير من كواليس السياسة.
وأذكر مطالبته لنا في أول لقاءاته بأن نخاطبه باسمه مجردا من اللقب الرسمي (صاحب السمو الملكي الأمير) ولكننا بالطبع لم نلتزم بما طلبه لأنه نال إمارة استقرت في قلوبنا بعظيم عطائه الإنساني، وسما إلى أعلى المراتب بتواضعه الجم.
وكان مترفعا عن قبول أي أوسمة أو شهادات فخرية من جهات رسمية أو هيئات حكومية، لكن كان يمتن إذا ما أهديته كتابا يتناول بعمق قضايا فكرية أو فلسفية.
إن رحيل وغياب صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز، طيب الله ثراه، خسارة كبيرة للمفاهيم الإنسانية الراقية، وللقيم والمثل الرفيعة.. ولكن فجيعتنا في فقدانه يعوضها أن آثاره ستظل باقية كنهر متدفق من العطاء الإنساني لن ينضب طالما بقي أبناء مخلصون لأفكاره ومؤمنون بنبل رسالته.