تَرنحت بمكانها للحظات حين نُطِق اسمها مُصطحبا باسم أول مؤلفاتها كى تترأس منصة حفل توقيعها وسط جموع أحبائها ومعارفها، فلم يتهاو أحد ممن على معرفة بها إلا وانتهز فرصة للقائها، فهى ممن قيل فيهم أحبهم الله فأحبب فيهم عباده، فكانت لها من البشاشة والنقاء ما يخلب القلوب. فجميل أثر ما تتركه بنفس من تقابله لا يُنسى. خطت خطواتها المتأنية إلى أن استقرت في المكان المخصص لها فهى عروس اليوم على منصة نجاحها. وما إن ثبتت قدمها حتى رأت أمامها مشهدا كثر ما امتلأت به أحلامها ليالى طوالا فقد وقعت عيناها على حضور كثير ملء اتساع رؤيتها، فقد كان لكل منهم شىء ما بداخلها، فأغلبهم كانوا أصدقاء لها من كلية الطب وآخرون من المهندسين أصدقاء أختها الوحيدة وهى بالتبعية. أما الباقون فهم من العائلة وآخرون من المعارف- ستذكرهم تباعا فيما بعد- ولكى تعيد تركيزها في اللحظة الحالية لتبدأ بإلقاء كلمتها إتماما لمراسم الحفل قبل أن تبدأ بتوقيع نسخ الحضور من كتابها وتوقيعها الذي يتلهف القُراء على إرفاقه مع المؤلف على أولى ورقات الرواية كتدوين لذكرى حضورهم لذلك اليوم.
ووسط كل تلك الأفكار المزدحمة التي بذهنها كان لا بد لها أن تُلقى بعضا منها جانبا كى تُنهى أكثرهم أولوية بترتيبهم، فما لها أن تفعل سوى أن تبحث عيناها عنه كى تستمد منه جزءا من السلام النفسى الذي كانت في أشد الحاجة إليه بتلك الصحبة كى تستعيد تركيزها، فإذا به يشعر ببحثها عنه فيلفت انتباهها بطريقته الخاصة التي طالما انبهرت بها دوما، فتلاقت أعينهما لتعيد منها شحن اطمئنانها بوجودِه وسط كل تلك الأعداد الحاضرة والذين يوجهون لها كامل تركيزهم مما أربكها فأرادت أن تتشبث بمصدر أمانها ففى طاقته شىء ما يجعلها تأمن له وتلجأ إليه وتستقر به كى تستطيع الأحرف أن تخرج منها مُحَملة بصوت أنثوى به من رقة وقعٍ تنجذب إليه الآذان مصغية له!، وهنا بدأت تستعيد هدوءها النسبى لتلتقط أصابعها مكبر الصوت موجهة صوتها نحوه قائلة:
- أعجز عن وصف سعادتى بجمعكم هنا لتشاركونى نجاحا لن أقصره على نفسى، فإن كنت كتبته فإن كلا منكم بطل لبعض صفحاته، فقد ألهمنى ما كان يحدث معكم وتروونه لى فستجدون أنفسكم هنا بسطور تلك الرواية.
فهناك أناسٌ تأتى وتذهب، وتظهر وتختفى، ويتجددون بحياتنا كتجدد أمواج مياه البحار فلكل ممن يمرون بنا مرحلة لها ميعاد لبدايتها غير المُرَتبة وميعاد لنهايتها غير المُتوقَعة حتى الآن فنحن في مرحلة بعمرنا ستنتهى حين يحين وقتها... فلكلٍّ مرحلة!.
بعدما انتهت من كلمتها، اخترق سمعها تصفيق حاد، صوت تُطرب له القلوب من صِدقه وتتراقص عليه النبضات من روعته، فقد رأت من قبل مثيله، ولكن ذلك الذي يحيطها له وقع خاص ومختلف.
كم ممتعة هي لحظات النجاح التي تُكلل بها جميع ما مَررتَ بها من إرهاق وسهر لليال طوال تخطط وتُعِد لطريق نويتَ أن تُكمِله طالما ترددت بداخلك الأنفاس! فقد كانت بدايتها مُدركة ومتتاليتها مُيسرة حتى أدركت تلك اللحظة التي هي بها الآن. أخذها زوجها أدهم من ذلك الفكر فمد يده إليها كى ترتخى بها كفها الصغيرة، ذلك الشخص الذي به من أناقة التصرفات ما يأسرها به، فعشقه لها ومعاملته إياها كملكة مُتوجة على عرش حياته كفيل بأن يجعلها تقع في حبه وكاف لأن تسكن روحها فيه. فمن يراهما لا تتحرك عينه عنهما ففيهما من الاتصال الروحى والجسدى ما يجذب أنظار من حولهما فيغبطهما لما هما فيه، فهناك نِعم على هيئة أشخاص وكلاهما رِزق من الله للآخر.
ظل الحضور يهنئونها على تلك الخطوة المميزة في طريق حياتها ويلتقطون الصور التذكارية لذلك الحدث، وآخرون يتزاحمون ليأخذوا منها تلك الكلمات التي تخطها على أولى ورقات نسخهم. أثناء ذلك شعرت ليلة بشىء غريب ينتابها أرخى جسدها وجعل اتزان ثباتها يختل فما عادت تستقر حركة عينيها بمكان ثابت، وخذلتها قدماها في حملِها، لم يتعد كل ذلك بضع لحظات قصيرة، فلاحظ أدهم أنها تفقد توازنها فتحرك نحوها في سرعة لافِتة والتقطتها يداه ممسكة بها جيدا داعما إياها بجسده كى تستند إليه، ولكن باءت قدرتها على تحمل ما بها بالفشل، فحملها على ذراعيه مُسنِدا رأسها إلى كتفِه وقد فقدت وعيها بمجرد أن استقر حمله لها وكأن جسدها كان يقاوم ما به حتى يطمئن أنه بمأمن فيتخلص من عبء مقاومته للألم ليذهب وعيها إلى حيث ما لا يعلمه أحد.
احتل المكان حالة من التوتر والحركات غير المنتظمة، فهناك من انتفض فزعا من مكانه للاطمئنان على من لها مكانة حقيقية في قلبه، وهناك من انتابه الفضول لرؤية ما حدث لبطلة الحفل، وهناك من تحرك بداخله شىء يدل على الفرحة، فرحة سقوط من لم يستطع يوما أن يحقق ما وصلت إليه ولا حتى أن يجاريه، ولكن حاول أن تكون تساؤلاته حاجبة لما يحاول مُداراته، وهناك من فضحته لمعة عينيه الشامتة بحالها فكان ما بداخله من غيرة وكره لها أكبر من محاولات إخفائه.
ومن بين مُنتفِض لحالها ومُبتهِج، وما بين القيل والقال من أناس لا تعلم كيف تروض ألسنتها كانت عائلة ليلة كالحصن المنيع حولها، يحيطون بمن كانت تتفنن في رسم البهجة على شرايين قلوبهم، بمن هي هواء الراحة لأيامهم، بمن تمثل لهم روح الحياة!.
لم تمر بضع دقائق على سقوطها إلا وقد أحضر أخوها يوسف سيارة أدهم الذي لم يترك ليلة إلا ليسندها بأحضان أمها بالمقعد الخلفى لسيارته كى يقودها كالذى جُن عقله فوقع قلبه بأطراف قدمه الضاغطة بأقصى قوة لها كى تُحرِك إطارات سيارة لم يستطع أحد أن يلحق بها لتصارع رياح شتاء ازدادت برودته جراء ما حدث لمن كانت مدفأة لقلوب أحاطتها من برودته القارسة.
وأثناء أفكاره التي لم يستطع أن يتحكم فيها شىء، كانت أمها تبكى- في تلك اللحظة- ابنة عمرها التي سقطت أمامها كأوراق الخريف، فلم تكن فقط ابنتها الكبرى بل السند- على عكس اعتقاد أغلب الناس عن الفتيات- الذي تتكئ عليه في أوقات شدتها، فكانت تحتضن من لم ينقطع الحبل السرى بينهما بعد، فلم يستوعب عقلها كيف لزهرة أيام شبابها التي لم تعشها لنفسها قط أن يحدث لها ذلك؟!.. أخذت تُتمتم ما استطاعت ذاكرتها أن تستجمعه من آيات قرآنية كى تحيطها رعاية خالقها التي كانت دوما تؤمن أنها بمعيته.
وبوقت مر على الرغم من سرعته الفعلية كساعات طوال عليهم، وصلت السيارة لأقرب طوارئ مشفى وتابعتها سيارات من لحق بهم وقد فاقت أعدادهم الحصر!.
وبمجرد أن أوقف أدهم السيارة فإذا به يهرول نحو ليلة ليحملها بعدما رفض جميع محاولات من حوله لوضعها على حامل متنقل، فقد عانقتها يد لم تعرف كيف تتركها، فعيناه التي غادرتها دموع لم يُدرِكها منذ أن رأى شريكة عمره تتهاوى أمامه لم تسمح بأن تغيب عنه للحظة. لكن في اللحظة التي وصل فيها إلى غرفة الفحص حال بينه وبينها الأطباء مانعين إياه من مرافقتها، فلم يملك سوى أن يتركهم يؤدّون عملهم راجيا الوقت أن يسعفهم في إنقاذها وألا يقسو عليه في انتظارها!!.