خمسة أيام كان يفترض بها أن تكون عطلة بغرض السياحة، تحولت إلى شهادة على أكثر أيام لبنان حرارة. ما بين إطفاء حرائق الأشجار، ورماد الطائفية، ولهيب الفساد، ونيران الغضب. في بلد تحول لونه تدريجياً من اللون الأخضر إلى البرتقالى ثم الأحمر. تظاهرات ضمت فئات عديدة من المجتمع اللبنانى، فيما اختار كثيرون موقع المشاهد، ومع اختلاف وسائل التعبير، صمتًا، هتافًا، أم قطعًا للطرق، ظل المطلب واحدًا «استعادة لبنان». بين لحظات استقبال مطار رفيق الحريرى بالأمطار، ومغادرته وسط دخان حرق الإطارات، كانت تلك السطور.
حرائق الأشجار ونيران الغضب
كانت ألسنة اللهب تتصاعد في 132 موقعًا في لبنان، منذ الاثنين الماضى، 14 أكتوبر الجارى، وحتى مساء الثلاثاء. سبق الحرائق تحذيرات من تأثير ارتفاع درجات الحرارة. وخلال 48 ساعة، حاول خلالها الجيش اللبنانى، والدفاع المدنى، والمواطنون إطفاء الحرائق. كما تمت الاستعانة بطائرات هليكوبتر من قبرص واليونان والأردن للمساعدة في الإطفاء. وذلك بسبب تعطل طائرات «سيكورسكى» الخاصة بالإنقاذ والإطفاء، اتضح أنها لا تعمل منذ سنوات. وطلب الرئيس اللبنانى، العميد ميشال عون، التحقيق في الأمر. وقال النائب اللبنانى، عن حزب القوات اللبنانية، زياد حواط، في تغريدة، عبر موقع التواصل الاجتماعى «تويتر»، إن الطائرات كلفت لبنان 15 مليون دولار، عام 2009، وتحولت إلى «خردة» حسب وصفه.
«سليم أبومجاهد»، 33 عامًا، توقف قلبه قبل وصوله المستشفى، بعد محاولاته مع آخرين إطفاء الحرائق بالجهود الذاتية، ليصبح القتيل الوحيد جراء الحرائق، والتى نتج عنها 178 مصابًا، وعشرات المنازل والسيارات وآلاف الأشجار. وما كانت إلا ساعات وبدأت موجة من التعليقات على منصات التواصل الاجتماعى، اتهم فيها مواطنون لبنانيون الحكومة بالإهمال والتقصير، وباتت سحب الغضب تسيطر على الأجواء، التي لم يستطع النواب اللبنانيون احتواءها، ولم يخل الأمر من نزعة طائفية، استنكرها كثيرون، لعل أشهرها التساؤل الذي طرحه النائب عن التيار الوطنى الحر، عضو «كتلة لبنان القوى»، ماريو عون، في تصريحات تليفزيونية: «كيف أنّ الحرائق لا تطال إلّا المناطق المسيحيّة بالتحديد؟».
ومع صباح الأربعاء الماضى، كان تبادل الاتهامات وصل إلى ذروته، اتهامات بالتقصير والإهمال، وبضعف إمكانات الأجهزة المعنية في مواجهة الكارثة، رغم الجهود المضنية التي بذلتها باستخدام تلك الإمكانات. وناقش مجلس النواب اللبنانى الأزمة، فيما بدأ اللبنانيون تنفيذ مبادرات لمساعدة المنكوبين والمتضررين، بتوفير أماكن إقامة، ومواد غذائية وإغاثية. وأطلق فنانون مبادرات لدعم لبنان، والمتضررين من الحرائق، بينهم راغب علامة والفنانة شيرين عبدالوهاب، إلا أن شيئًا كان على وشك الحدوث في الساعات التالية يشعل النيران من جديد.
بداية حراك وتصريحات متضاربة
استطاع لبنان، بمساعدة خارجية، إخماد الحرائق، لكن النيران ظلت تحت الرماد، مر الأربعاء الماضى- 16 أكتوبر الجارى- بسلام، غير أن «السوشيال ميديا»، ووسائل الإعلام لم تتوقف عن الحديث عن «الفشل والإهمال والتقصير»، ربما لم يلتفت الكثير إلى مسيرة كانت شهدتها لبنان، قبل 48 ساعة، يوم الاثنين الماضى، في ساحة الشهداء وسط العاصمة بيروت، نظمها «الشباب التقدمى» (يتبعون الحزب التقدمى الاشتراكى وأغلب مؤيديه من الدروز)، ورفعت شعار «بدنا نسمعكن صوتنا»، تعلن رفض الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وألقى وزير الصناعة، وائل بو فاعور «درزى»، كلمة فيهم: «تقلبون الطاولة على من؟ الطاولة طاولتكم والقرار قراركم والوزراء وزراؤكم والأزلام أزلامكم وأنتم تحتكرون كل مواقع السلطة والطاولة ومن عليها فمن تهدّدون؟».
استمرت الحياة في لبنان، واستمر الجدل السياسى حول الموازنة العامة لعام 2020، وقدمت الأحزاب والتيارات السياسية مقترحات للإصلاح الاقتصادى، فيما يشكو المواطنون سوء الأحوال الاقتصادية، ولم يتوقف الحديث عن ضرورة تخفيض الإنفاق العام من أجور ورواتب التقاعد والدعم والخدمات الأساسية، وزيادة الضرائب على الاستهلاك.
وجاء صباح الخميس الماضى ليجد اللبنانيون أنفسهم على موعد مع أزمة جديدة، واشتعل الغضب مجددًا، بعد تصريحات وزير الإعلام اللبنانى، جمال الجراح، والتى قال فيها إن الحكومة وافقت على فرض رسم قدره 20 سنتًا في اليوم على المكالمات عبر «واتس آب» و«فيسبوك» و«فيس تايم»، وهو ما تزامن مع حديث عن فرض رسوم جديدة، كانت حديث الساعة في المقاهى والمطاعم، ملامح الحياة الطبيعية في خليج الزيتونة استمرت حتى التاسعة مساءً، قبل أن يخرج آلاف اللبنانيين في تظاهرات بالشوارع والميادين الرئيسية.
لم تفلح محاولات الحكومة في احتواء التظاهرات، التي ارتفع سقف مطالبها على نحو كبير وسريع، وتسابق وزيرا الاتصالات والمالية اللبنانيان، محمد شقير، وعلى حسن خليل، في إصدار التصريحات الصحفية، وإجراء مداخلات هاتفية، أكد خلالها الأول أن قرار الرسوم «كأن لم يكن»، وشدد الثانى على إقرار موازنة لا تتضمن فرض رسوم أو ضرائب جديدة. وعلى الرغم من ذلك انطلقت الهتافات في ساحة رياض الصلح وسط بيروت «الشعب يريد إسقاط النظام»، «ثورة ثورة»، «طاء طاء طاقية حكومة حرامية»، «كِلُن يعنى كِلُن» في إشارة إلى المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، والنواب.
وعلى شاشة إحدى القنوات اللبنانية، تسابق المذيع في استنطاق ضيوفه خلال مداخلاتهم، منهم الزعيم الدرزى، وزعيم الحزب التقدمى الاشتراكى اللبنانى، وليد جنبلاط، طلب المذيع منه توجيه رسالة لرئيس الحكومة، سعد الحريرى، وتحدث المذيع كثيرًا عن ضرورة استقالته، ليطالب جنبلاط «الحريرى» بالاستقالة على الهواء، المذيع ذاته طالب زعماء تيارات سياسية، في مداخلات تالية معهم، بتوجيه رسائل إلى أنصارهم يطلبون منهم النزول للشارع.
المتظاهرون قطعوا الطرق المؤدية إلى مطار رفيق الحريرى، بحرق القمامة وإطارات السيارات والحجارة، وبمشاركة لافتة من النساء والفتيات والأطفال، وبحلول المساء استطاعت قوات فض الشغب تفريق المتظاهرين بقنابل الغاز المسيل للدموع، ووقعت إصابات في صفوف الأمن والمتظاهرين، الذين أكدوا عودتهم من جديد.
«هذا ليس لبنان»
التقت «المصرى اليوم» مواطنين وصحفيين، أكدوا حالة الغضب «المشروع» من الغلاء وتردى الأحوال المعيشية، الأمر الذي يدفع البعض إلى العمل في مهنتين أو دوامين لزيادة دخله، حرصًا على تلبية الاحتياجات الأساسية. ووصلت نسبة البطالة في لبنان إلى نحو 40% بحسب إحصائيات.
الغضب شمل أيضًا حديثا عن تردى الخدمات الأساسية للمواطنين، وزيادة الرسوم وفواتير الكهرباء، وارتفاع أسعار السلع والسجائر، إلا أن جملة واحدة ظلت تتردد على ألسنة الجميع «هذا ليس لبنان»، في إشارة إلى أن البلد لديه العديد من المقومات، ويستحق الأفضل، وأن ما تشهده البلاد من تظاهرات، وبعض مظاهر الشلل والفوضى، لا تعبر عن الوجه الحقيقى للبنان واللبنانيين.
زادت حدة الغضب بعدما رشق متظاهرون في طرابلس، النائب مصباح الأحدب، بزجاجات المياه، وهو ما رد عليه مرافقوه بإطلاق وابل من الأعيرة النارية العشوائية، شاهدها اللبنانيون عبر الشاشات على الهواء مباشرة. ليسقط قتيلان وثمانية جرحى، وأشعل متظاهرون النار في مقار للنائب. وفى ساحة رياض الصلح وقعت احتكاكات بين بعض المتظاهرين، وممثلى الحزب التقدمى الاشتراكى، الذين رفعوا رايات الحزب، كان من الواضح أن المواطنين يريدون الارتقاء فوق المذهبية والطائفية والتوجهات السياسية ظهرت في كلمات متظاهرة غاضبة موجهة حديثها إلى أنصار «التقدمى»: «بدنا علم لبنان وبس».
«برمانا»، التي تبعد 20 كيلومترًا عن العاصمة بيروت، فوق جبل لبنان، وتتبع محافظة المتن، ينتشر فيها أنصار حزب الكتائب بشكل كبير. اتسمت الأمور بالهدوء، الحياة تسير بشكل طبيعى وحذر، هناك كما في مناطق عديدة من لبنان، البعض يلعب بلياردو، وكرة قدم، ويستمتع بوجبة بصحبة حبيبته في مطعم. فيما أغلقت المدارس والجامعات أبوابها، والبنوك، حتى إن ماكينات الصراف الآلى خارج الخدمة، واستمر متظاهرون في إغلاق الطرق، والتوجه إلى قصر الرئاسة في بعبدا. هؤلاء الذين لم يشاركوا يرون أن الأوضاع سيئة، وأن أي تحرك الآن يجر البلاد إلى الفوضى، ويزيد الوضع سوءًا.
تجديد الثقة في الجيش
استمر المتظاهرون في الحشد بميادين وشوارع عديدة، وانطلقت تظاهرات في مناطق جديدة، فيما ظل موقف حزب الله اللبنانى غامضًا حينها، ورأى شباب من تيار المستقبل ضرورة استقالة «الشيخ سعد»، واعتبروا ذلك «ترفعًا عن الوضع الراهن». والبعض طالب بتولى الجيش اللبنانى المسؤولية في هذا التوقيت، لما يحظى به من ثقة في الشارع اللبنانى، وكان تفاعل الجيش مع سلسلة الحرائق، وذلك موقفه من المتظاهرين ومطالبهم محل تقدير من اللبنانيين، الذين اعتبروا الأحداث بمثابة تجديد ثقة في المؤسسة العسكرية اللبنانية.
ازدادت الأمور حدة مع بعض مظاهر الفوضى من اقتحام محال تجارية وتخريب بعض المبانى، حرص مواطنون على التأكيد على سلمية التحرك، وأن من يقوم بتلك المظاهر «زُعران» أي مثيرى مشاكل وخارجين عن القانون، وأن الأجهزة الأمنية تستطيع التفرقة بين «الزعران» و«الأوادم» أي المواطنين الصالحين من باقى الشعب اللبنانى.
امتدت السحب السوداء في مناطق متفرقة من لبنان، نتيجة حرق إطارات السيارات، وبحلول الثامنة مساء الجمعة وقعت اشتباكات بين المتظاهرين والأمن في ساحة رياض الصلح وبعبدا، استخدم الأمن القنابل المسيلة للدموع، وألقى القبض على العديد من المتظاهرين، اللافت أن الأمن والمتظاهرين حرصوا على التأكيد أنهم أخوة، وأن كليهما مُتعَب ومرهق، ويؤدى واجبه تجاه لبنان، وأكد المتظاهرون أنهم لن يتركوا الميادين حتى تحقيق مطالبهم.
كانت الأنباء ترد حول خطورة الوضع، مع استمرار قطع الطرق، وشائعات إغلاق المجال الجوى، وبدء توافد المئات على مطار رفيق الحريرى الدولى، الذي يبعد تسعة كيلومترات من وسط العاصمة بيروت، واضطر الكثيرون إلى السير على أقدامهم قرابة 700 متر، خاصة مع توقف شركات التاكسى عن العمل، وكذلك شركات النقل مثل «أوبر».
إذا كانت طائرتك في السادسة من صباح السبت، وقوات الجيش اللبنانى تتحرك لفض اعتصامات ومظاهرات في العاصمة بيروت، الأفضل أن تتوجه إلى المطار في وقت مبكر، ووسط مجموعة، أو لا تغادر مكان إقامتك إلا للضرورة القصوى، أو عليك ربما إلغاء حجز الطيران، والانتظار لحين هدوء الأوضاع، كانت تلك سلسلة من النصائح لمن يرغب في مغادرة لبنان.
إقناع سائق تاكسى سبعينى للخروج بك إلى المطار ليس أمرًا سهلًا، قد تضطر إلى دفع 50 ألف ليرة لبنانية، أو ما يعادل 40 دولارا أمريكيا، لإقناع أحدهم بتوصيلك إلى أقرب نقطة إلى المطار، وذلك بعد محاولات مستميتة على مدار ساعتين أو أكثر لتجنب الإطارات والقمامة المشتعلة، أو إيجاد طريق بديل للمطار بعد أن أغلقه المحتجون بمحتويات سيارة نقل كبيرة من طوب وبقايا هدم عقار، تضطر للبحث عن طرق بديلة، تتنقل بين مناطق سيطرة أنصار الكتائب، وحزب الله، حيث أعلامه الصفراء الشهيرة في الشوارع، ومقولات الإمام على ابن أبى طالب، وصور الشهداء على النواصى.
وتتجنب الاحتكاك بالمحتجين وإلا كان المصير تحطيم السيارة التي تستقلها. قبل المطار بنحو 400 متر تضطر للسير على الأقدام، تستقبلك دبابات الجيش اللبنانى، وسيارات الجيب والهامر، والجنود والضباط بكامل أسلحتهم، يفرضون السيطرة في محيط المطار، فيما تحاول سيارات الإطفاء السيطرة على حرائق في عدد من الأماكن وبالقرب من ساحات التظاهر، وفى بعض الحالات يعرض الجيش توصيلك إلى المطار، أو أن يستوقفك سائق تاكسى عالق في المنطقة كما حدث معى، ورفض الرجل تلقى مال نظير توصيلى للمطار، واكتفى بالقول: «إذا صار معى هيك بمصر ما بتساعدنى؟»، أجبته بأننى أو غيرى من المصريين سنساعده بكل تأكيد، شكرته، وتمنى لى سلامة الوصول.
افترش العشرات رصيف المطار، وأرضيته الداخلية، بانتظار فتح الباب لتأكيد حجوزات الطيران، يتابعون أخبار تدخل الجيش اللبنانى لفض التظاهرات، في ساعة متأخرة من مساء الجمعة، طوابير ممتدة أمام خطوط الطيران المتوجهة إلى ألمانيا وتركيا وفرنسا، مظاهر الإرهاق تعلو وجوه موظفى المطار ورجال الأمن، الذين واصلوا العمل على مدار يومين كاملين، أو واجه بعضهم صعوبات ومخاطر في الوصول إلى عمله، كانت التعليمات واضحة للجميع بتسهيل الإجراءات، كل الطائرات محجوزة بالكامل، تضم مختلف الجنسيات، كما الحال على طائرة مصر للطيران ورحلتها رقم MS714، التي وصلت مطار القاهرة في السادسة من صباح السبت، وعليها مصريون ولبنانيون وعرب وأجانب، فضلوا المجىء إلى مصر.