هو نفس الميدان، حديقة دائرية تتوسطه احتضنت قديماً «كعكة حجرية» لعبت دور البطولة فى قصيدة لأمل دنقل حملت الاسم نفسه. عمارات عتيقة يتجاوز عمر بعضها 100 عام تشرف بنوافذها على أحد أضلاعه. مبنى مجمع مصالح حكومية يتصدر الواجهة. فنادق أنيقة تطل بظهورها عليه فى حذر، بينما تولى وجهها شطر النهر الهادئ. جامعة الدول العربية تستكين عند أحد مداخله فى مواجهة مبنى أثرى لوزارة الخارجية يقبع بدوره على مقربة مسجد لا يقل عنه تاريخا. متحف ضخم يغلق أبوابه ليلاً على حكايات وأساطير وملوك مكبلين فى توابيت من الحجر. جامعة أمريكية بواجهات زجاجية تلمع عند انعكاس أشعة الشمس عليها. مطاعم للوجبات السريعة، وأخرى شعبية، وشركات سياحية ومتاجر صغيرة، ومقاه تفتح أبوابها وتنشر مقاعدها على أرصفته. محطة للمترو تحمل اسم رئيس أسبق، وميدان قريب يحمل اسم وتمثال شهيد حرب لا تزال طازجة فى الذاكرة. شوارع رحبة تقود إلى قلب العاصمة النابض بالحياة. حكايات ووقائع وبطولات لا تنتهى، حفرت بدماء أصحابها مكاناً تحت الشمس، وسطرت تاريخهم فى القلوب والصدور بحروف من نور. هو نفسه ميدان التحرير الذى لا يكاد يلتقط أنفاسه حتى يعاوده اللهاث من جديد.
لم تكد عقارب ساعة جامعة الدول العربية التى تشرف على الميدان تبلغ الخامسة من مساء يوم 25 يناير الماضى، حتى كان التحرير بكامله قد سقط فى قبضة متظاهرين غاضبين خرجوا من ديارهم مطالبين بـ«عيش وحرية وعدالة اجتماعية». وعندما هبط الليل كان مطلب الثوار الوحيد هو «إسقاط النظام»، وعلى مدار 18 يوماً أصبح الثوار معتصمين يسيطرون على الميدان بخيامهم وأمتعتهم فى مواجهة نظام عجز عن تفريقهم بقوات أمنه فاستعان ببلطجية استخدموا بدورهم جمالاً وخيولاً لإفساد المشهد. ومع سقوط شهداء وجرحى بالمئات اكتسب الميدان قوة من نوع جديد أجبرت رئيس الجمهورية على أن يتوجه بحديثه مساء يوم 10 فبراير «إلى شباب مصر بميدان التحرير، وعلى اتساع أرضها»، واصفاً إياهم بـ «رمز لجيل مصرى جديد. يدعو للتغيير إلى الأفضل ويتمسك به. ويحلم بالمستقبل ويصنعه». غير أن حديثه إلى شباب التحرير بدا أنه لم يصل لمسامعهم، فأصروا على مواصلة اعتصامهم والضغط بقوة ميدانهم حتى أعلن نائب رئيس الجمهورية فى المساء التالى تخلى الرئيس عن منصبه و«تكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد».
هكذا حصل ثوار الميدان على ما طمحوا إليه: إسقاط النظام متمثلاً فى رئيس الجمهورية، الأمر الذى أشعرهم بقوتهم مقترنة ببقائهم فى الميدان الذى أصبح منذ ذلك التاريخ أيقونة لكل الباحثين عن الحرية فى العالم، وورقة ضغط فى يد المتظاهرين يشرعونها فى وجه كل من يخرج عن نهج الدولة التى أسسوها فى الميدان، وارتضوا أن يتعايشوا وفق دستور خاص وضعوه بأنفسهم طوال 18 يوماً امتدت من مساء 25 يناير ببدء الثورة المصرية، وانتهت مساء 11 فبراير أيضاً بإعلان مبارك تنحيه عن منصبه استجابة لضغط دولة التحرير، وإذعاناً للثورة الشعبية التى انطلقت من الميدان.
لم ينته الأمر عند ذلك الحد، صحيح أن الثوار رجعوا إلى منازلهم فى اليوم التالى بعد أن تم كنس الميدان وتنظيفه وتجديده ودهان أرصفته، إلا أنهم كانوا قد أمسكوا بأيديهم تلك اللحظة الرائعة التى ينكسر فيها الجبروت أمام إرادة الشعب، فعادوا مرة أخرى للميدان بعد مرور أقل من أسبوعين على رحيل مبارك فى يوم الجمعة 25 فبراير ليطالبوا برحيل حكومة الفريق أحمد شفيق التى حلفت اليمين أمام الرئيس المخلوع، على اعتبار أنها كانت جزءا من النظام الذى نادوا بتغييره. وقبل أن يتم الأسبوع دورته فاجأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة الجميع الخميس 3 مارس بإعلانه قبول استقالة حكومة شفيق، وتكليف الدكتور عصام شرف برئاسة الوزارة، ما مثل هدفاً جديداً أحرزه الميدان الذى نادى بإقالة شفيق وتعيين شرف مكانه بعد أن أعلن الأخير مبكراً جداً انضمامه لثوار التحرير وسط لفيف من أساتذة جامعة القاهرة الذين قادوا مظاهرة حاشدة للميدان قبيل أيام قليلة من رحيل مبارك.
ولأن شرف جاء من الميدان، كان لابد أن يعترف بفضل الميدان عليه، لذلك ذهب للميدان فى اليوم التالى «الجمعة 4 مارس» لتكليفه بالوزارة واعتلى المنصة ليلقى كلمة عاهد فيها الشعب على العمل، ثم هبط منصرفاً إلى تشكيل وزارته الجديدة. كان تعهد شرف أمام ثوار التحرير بالعمل اعترافاً منه بشرعية الميدان الذى امتلك القوة لإقالة رئيس وزراء وفرض آخر على المجلس العسكرى. قوة لابد أن يعمل لها الجميع ألف حساب وحساب.
هدأ الميدان قليلاً ليشتعل مرة أخرى مع بداية شهر أبريل، عندما علت الأصوات تطالب بمحاكمة الرئيس المخلوع على ما ارتكبه بحق الثوار طيلة 18 يوماً استغرقتها الثورة. خرجت مظاهرة مليونية لميدان التحرير- الجمعة 1 أبريل- الهدف منها إجراء محاكمة شعبية لمبارك فى الوقت الذى كان فيه الأخير لا يزال يقيم فى منزله وسط عائلته بمدينة شرم الشيخ دون أن يتعرض له أحد، أو يوجه له أى اتهام. وقبل أن تأتى الجمعة التالية كان رئيس جهاز الكسب غير المشروع أصدر قراراً الثلاثاء 5 أبريل باستدعاء كل من جمال مبارك نجل الرئيس المخلوع، وزكريا عزمى، الرئيس السابق لديوان رئيس الجمهورية الذى صار سابقاً هو الآخر لسؤالهما فيما نسب إليهما من تضخم ثرواتهما، وعندما تواصلت المحاكمة الشعبية لمبارك فى الجمعة التالية- 8 أبريل- كان الميدان ممتلئا عن آخره بجموع المتظاهرين الذين راحوا يطالبون بمحاكمة عاجلة وعادلة.
هل استجاب المجلس العسكرى لضغوط الميدان، أم أحرجه التسجيل الصوتى لمبارك والذى توجه به كما قيل وقتها دون علم المجلس إلى قناة العربية لتذيعه بعد يوم واحد فقط من مليونية الجمعة- الأحد 10 أبريل- معلناً فيه استعداده الكامل للتعاون مع مكتب النائب العام للكشف عن أى أرصدة أو حسابات له ولزوجته وأبنائه فى الخارج. أياً كان السبب فقد صدر قرار من النائب العام فى نفس اليوم يطلب استدعاء كل من مبارك ونجليه للمثول أمامه للتحقيق، وأرسل خطاباً بذلك لوزير الداخلية لتنفيذ القرار.
تسديدة جديدة فى المرمى احتسبها ثوار الميدان لأنفسهم، زادت من قوتهم أمام أنفسهم، كما زاد من قوة التحرير فى اعتقادهم البدء فى التحقيق مع مبارك ونجليه- الثلاثاء 12 أبريل- بعد يومين فقط من استدعائهم أمام النائب العام. وفى اليوم التالى 13 أبريل- صدر قرار بحبس مبارك ونجليه علاء وجمال 15 يوما على ذمة التحقيقات، تم على إثره ترحيل علاء وجمال إلى سجن مزرعة طرة تنفيذاً للقرار، بينما ظل مبارك نزيلاً بمستشفى شرم الشيخ الدولى الذى كان قد دخله قبل يوم واحد من قرار الإحالة إثر الإصابة بأزمة قلبية كما قيل وقتها.
وتوالت الأهداف، تحت ضغط من الميدان تمت فى 24 مايو إحالة مبارك ونجليه وحسين سالم إلى محكمة الجنايات فى تهم قتل المتظاهرين واستغلال المنصب لتحقيق مكاسب مادية وتصدير الغاز لإسرائيل. عصام شرف قبل استقالة نائبه يحيى الجمل، وقرار المجلس الأعلى للقضاء «12 يوليو» السماح بتصوير جلسات محاكمة رموز النظام السابق، وشكل عصام شرف حكومته الثانية فى 21 يوليو، وشاهد العالم كله مبارك وهو ينام على سرير صغير داخل قفص حديدى بالمحكمة صباح 3 أغسطس فى أولى جلسات محاكمته.
قوة الضغط حرضت على مزيد منه للحصول على مكاسب سياسية لم تكن لتأتى لولا وجود متظاهرين فى التحرير، هكذا فطن الثوار، فعادوا مرة أخرى للاعتصام فى أواخر نوفمبر احتجاجاً على أحداث محمد محمود، وطالبوا بإقالة حكومة عصام شرف وهو ما تحقق فى 21 نوفمبر، وتم إسناد الوزارة للدكتور كمال الجنزورى، على غير رغبة الميدان، الأمر الذى أدى إلى نقل جانب من الاعتصام أمام مبنى مجلس الوزراء اعتراضاً على الجنزورى، وهو الاعتصام الذى شهد نهاية دموية فى الأيام القليلة الماضية بعد فضه بالقوة.
هل يفقد ميدان التحرير قوة ضغطه مع دخول الثورة عامها الثانى، وعودة مجلس الشعب للعمل بعد الانتخابات البرلمانية؟.. سؤال ننتظر أن تجيبنا عنه الأيام القادمة.