مثل قلعة سحرية تحيطها غلالة من ضباب، بدت المدينة لقاصدها عبر المطلع فى الفجر، تلطخ ضبابها هالات من ضوء مغبر حول أنوية شديدة الحمرة، لمصابيح واهنة تتلامح فى ارتعاش؛ إذ تقاسى طوال الليل نزف نورها القليل.. وتقاسى المطر.
وإلى تحت ينحدر مدق، هو مهبط لأقدام آخر النهار، ويصلها بتخوم سكنت إلى هيئة بيوت واضعة وأعشاش هاجعة بدورها فى هذه الساعة من فجر شتائى مفعم بالسكون، إلى أن يشقه شقاً صفير متقطع لقطار الصبح، حينئذ يجوز للعين أن تتلمس فى الغبش كهيئة عربة اليد، يجرها أحدهم جاهداً فى ارتقاء المطلع، أو تلمح أشباحاً مدثورة إلى آذانها وأنوفها.
تنقل القدم قليلاً أو تنزعها من الوحل نزعا يفوت فيه فردة حذاء تجلله دفعة أو اثنتان من بخر أبيض فى أصوات الكحة والتمخط، أتعرف هذين العمودين المتماسكين كماسورتين ثلجيتين يطلقهما منخاراً حصان عجوز، يكابد مع عربة مثقلة بالأقفاص والأشولة. قبض الطين على عجلتيها فانغرزتا، شمخ الحصان وشد قوائمه..إنما تأبت العربة وطقطقت ألواحها فعاد يشد صدره ويحمحم ضارباً بحوافره فى عصبية، وصاحبه العجوز يكسع كفله عنيفاً بيده. والحصان يحاول ويضرب برأسه إلى الناحيتين فى توتر زائد حتى أوشكت العربة.. ههه.. ههه.. إنما زاد إحدى العجلتين مغرزاً وميل معه العربة بحولها، فانهال العجوز على خطمه، وهو يحمحم ضارباً بحوافره بطريقة سريعة مكرراً المحاولة.. هب.. هب.. هب. أخذ يصيح العجوز. وعلا صوت طقطقة وتكسر. فيما خطف الرجل ذيل جلبابه فى فمه، وخف إلى الخلف جنب المرأة صحبته لينشبا أقداماً أربعا في عمق الوحل و«يزقان» بعزم اثنين.
«إيدك معانا والله»
صرنا ستاً من الأذرع، ومثلها من الأقدام المرشوقة. ندفع دفعة، فنحركها قليلاً وتئن عجلاتها فى صرير محتوم، حتى دورناها نصف عجلة.. ههه.. وما كدنا حتى ارتدت بقوة إلى ذات المغرز.
انضم إلينا عابر ضخم البنية فأملنا خيراً، صرنا ستة سواعد، وكتفاً عريضة تخفض لتعلق عليه عريش العربة.. ههه.. هوب.. إنما صر العجوز وجهه وتركنا ليحمل على خطم الحصان بقبضته. لولا أنه لا حمحمة ولا صهيل، بل خوار موجوع وقوائم سايبة ترجف، وفم عن آخره مفتوح يفيض بغرغرة لاهثة.
لبث العجوز يدلك صدغى الحصان ورقبته ويغمغم. ثم جثا ليدلك قائمتيه، وبين الحين والحين يرفع إليه الوجه من جثوته. حتى ارتعش له الحصان بنفضة فائقة، ضارباً بقوائمه الأربع، ومشرعاً أعمدة منخاريه البيضاء باتجاه الأعلى، وكانت تبينت المدينة بهيئة أبراجها والعمائر، وزجزاج الأسفلت، وانجلى الغبش المعتم إلى غلالة من ضباب زجاجى رقيق وهش.
هممنا فى عزمة واحدة «نزق» بصدورنا وأيدينا. هب.. هب.. هوووب. عتف العجوز المنحنى عند زاويتى العجلتين المخلخلتين. يفرق الطين ويدفع فيهما بحجرين.. ويدفع. محتلاً كل قيد أنملة تنقلها العجلتان ويهتف هب.. هب.
نهاية تلائم المدينة:
فى قفزة واحدة، كان العجوز الغاضب ينهال على خطم الحصان المنهك، لطماً عشوائياً، وينط كى تطال لكماته الوجه الهارب عبثاً، وبقى للجسد المقيد إلى العربة أن ينتفض فى موضعه، أو تندفع مؤخرته لأعلى فى رفسات عاجزة مكبولة، كف العجوز لاهثاً، سوى عن غمغمة ةغاضبة وبصقة يصوبها كل حين بين قدميه. عدنا «نزق»، وحاول الحصان أن يهم بصدره ويحمحم، حاول وضرب بقوائمه فى غير توافق. بعد قليل ودونما حماسة توقف كل شىء.
فزع العجوز إليه وتبعناه والمرأة فى إثرنا تولول. فإذا هو إلى ذراع العربة يميل. لا حمحمة أو صهيل، يكابد فى اجتلاب بضع أنفاس، وعينان منطفئتان، وغرغرة تسيل عن جانب الفم دامية. أسرع العجوز بفك رباطه إلى العربة، فلبث الجسد على وقفته للحظة كتمثال مائل، هوى بعدها على جانبه فى الوحل، وانقطع بخر أنفاسه القليل الهش، يرق ويرق .ويتلاشى إلى بدد. اندفع العجوز الذاهل يرفع خطم الحصان ويحدق إليه بعينين كسيرتين، ثم يدعه يسقط من يديه، يرفعه ويدعه، فى حين كفت سيلة الرغوى وإن مازالت عالقة خيوط حمراء بين الأسنان الكبيرة والوحل.. وحل المطلع.