«مصر رايحة على فين؟».. سأل سائق التاكسى وتخلت يداه عن عجلة القيادة ليضرب كفاً بكف. كان الشارع مكتظاً بمئات السيارات، ومن ثم تفصلنا عن إشارة التقاطع بضع مئات من الأمتار، ولم تكن تلك هى المشكلة. كانت المشكلة أن الوقت ذروة والسيارات تأتى من اتجاهات شتى لتندفع فى اتجاهات شتى: إلى الأمام وفى عكس حركة السير.. يميناً من أقصى اليسار ويساراً من أقصى اليمين.. وبـ«الورب» أحياناً: «هذا حال البلد».. علق السائق وأضاف بنبرة محبطة: «الله رزقنا بثورة تحسدنا عليها كل الدنيا.. لكننا لا نستحقها»!
«مصر رايحة على فين؟».. ما من أحد فى مصر هذه الأيام لا يهمس لنفسه أو لآخر، وكأن ما جرى فى الخامس والعشرين من يناير 2011 كان «حملاً كاذباً». قبل هذا اليوم، عندما كان لدينا دولة (لا نملك من أمرها شبراً واحداً) ونظام سياسى (فاسد، مغلق حتى على فساده) وشارع (بفوضى منظمة) وقانون مشفر (يعمل وفق مزاج قصر العروبة).. قبل هذا اليوم كان المصريون يسألون أنفسهم طوال الوقت: «مصر رايحة على فين؟»، وكان لديهم أكثر من سيناريو: توريث، أو حكم دينى، أو عسكرى، أو دولة مدنية، وربما فوضى تواكبها ثورة جياع. لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يتوقع أن يربط المصريون حجراً على بطونهم ويتدفقوا على ميدان التحرير ليبتكروا نوعاً جديداً من الثورات: كلهم، كباراً وأطفالاً، هلالاً وصليباً، فأساً وفيس بوك، أغنياء وفقراء، كلهم وقفوا بصدور عارية أمام ثلاثين عاماً من القمع والفساد والمهانة، وبعد ثمانية عشر يوماً فوجئوا بأن بلدهم بين أيديهم، بلا قمع أو فساد أو مهانة، فماذا فعلوا؟.. سألوا أنفسهم وقد أصبحوا فى مفترق طرق: «مصر رايحة على فين؟»..
السؤال نفس السؤال، كما قالت «شادية»، صوت مصر أيام كان لمصر صوت و«الجواب نفس الجواب».. لكن الروح متفائلة والإرادة أشد صلابة. والشعب أصبح فاعلاً لا مفعولاً به. ثلاثة سيناريوهات: حكم دينى أو عسكرى أو دولة مدنية، وإذا كانت ثورة 25 يناير قد قضت على سيناريو «التوريث».. فإن «الفوضى» بعد هذه الثورة لم تعد مجرد سيناريو، بل أصبحت أرضاً خصبة لوسواس قهرى أصابنا جميعاً: «مصر رايحة على فين؟».
قد يكون السؤال مبكراً، فأربعة أشهر فى عمر ثورة بهذا الحجم ليست كافية. وقد يكون فى أوانه إذا أخذنا فى الاعتبار أن الفساد فى عهد مبارك كان قد نضج، بحيث لا يحتاج التغيير إلى علاج موضعى.. بل إلى جراحة استئصال.
مبكراً أو فى أوانه: المصريون يسألون ونحن معهم وأبعد منهم بخطوة قد تقلقهم: ثمة «ألغام» على الطريق. البلطجية والأزمة الاقتصادية والسلفيون والفتنة الطائفية والقوى الإقليمية ومحاولات توجيه الثورة والتلويح بسلاح المعونة.. الثورة إذن فى خطر، وقد لا تكون هذه ألغاماً.. بل اختباراً: حدث ذلك فى ثورات أخرى واجتازته، حدث فى فرنسا وشيلى وأوكرانيا وبولندا وإيران ورومانيا وأندونيسيا، اكتملت ثوراتها فاكتملت بها. فلماذا لا يفعلها المصريون؟.. لماذا لا تنجح ثورتهم ويكملوا حلقة حضارية جديدة من تاريخ صنعوه «فى صمت» فاستولى عليه طغاتهم؟
أهو «أمل»؟.. ليكن، فمن دون هذا الأمل يرتد سؤال «مصر رايحة على فين؟» إلى صدرونا غلاً وتواكلاً.. وتلحق ثورة25 يناير بـ«هوجة عرابى» وثورة الشعب فى 1919 وحركة العسكر فى 1952.. من دون هذا الأمل تتحول هذه الثورة إلى مانشيت من كلمة واحدة فى جريدة مستقلة، تسمى «المصرى اليوم».
داخل الملف
الأزمة الاقتصادية.. شبح يدفع للديكتاتورية والانقلاب على الثورة
القوى الإقليمية .. محاولات توجيه الثورة .. والتلويح بسلاح المعونات
«الإخوان» بين جنة تركيا.. ونار إيران
مصر تطلق لحيتها.. السلفيون يخرجون من القمقم
الفتنة الطائفية «لغم» زرعه النظام السابق.. و«الزحف الفكرى» يهدد بانفجاره
نور فرحات يحدد نتائج وصولهم للحكم: إهدار الحريات.. وعودة المرأة للمنزل.. وترسخ شعور الأقباط بالأقلية
«الحكم الليبرالى».. نظرية فى مهب الريح.. ونظام فى قفص الاتهام
الحكم العسكرى.. سيناريو المخاوف والأمل
«مارك لينش»: يجب إجراء الانتخابات البرلمانية سريعاً في مصر قبل أن يعُجب الجيش بالسلطة
ثورات المصريين من «بيبى الثانى» إلى «مبارك»
من 23 يوليو 1952 إلى25 يناير 2011: حكاية «الجيش» مع الشعب والشارع فى 59 سنة