يؤكد ثوار من دمشق وريفها وحمص والقرى المحيطة بها عزمهم الاستمرار فى ثورتهم حتى إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، غير مستبعدين عسكرة الثورة ما إن يفتح الجيش السورى الحر باب التطوع، رغم قولهم إن العنف فى مواجهة مظاهراتهم السلمية ازداد خلال الأشهر الأخيرة ما أثر عن قدرتهم على الحشد.
معنويات الثوار السوريين مرتفعة رغم ازدياد عنف الأمن فى مواجهتهم، سواء فى المظاهرات عبر إطلاق الرصاص الحى لا لتفريقهم بل لقتلهم، أو عبر حملات المداهمات الليلية والاغتيال العشوائى أو الاعتقال للنشطاء الذين يُكتشف أمرهم.
التقت «المصرى اليوم» عدداً من الثوار فى حمص ودمشق وريفها، وحفاظاً على أمنهم تنشر «المصرى اليوم» أسماءً مستعارة لهم.
كان الثوار فى مكان اللقاء يتابعون شاشة «بى. بى. سى» العربية، وهى تنقل بثاً مباشراً من ميدان التحرير الذى احتشد فيه الآلاف ينادون بإسقاط الحكم العسكرى فى إحدى المظاهرات التى أعقبت أحداث «محمد محمود» التى سقط فيها 42 شهيداً.
قال «رامى»، وهو شاب من ريف دمشق، يدير محلاً تجارياً ورثه عن والده، ويعول من دخله أسرة تتكون من زوجة وطفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها 5 سنوات: «مصر كانت نموذجاً ملهماً لإمكانية التغيير. كنا نعرف أن طريقنا أصعب، وأننا سنتعرض للقتل دون رحمة، ولكن فى النهاية التغيير ممكن». ورغم اعتقاد «رامى» البالغ من العمر 29 سنة أن التجربة التونسية كانت أفضل لأنها حققت خطوات حقيقية فى بناء نظام جديد لا إعادة إنتاج السلطة، فإنه يؤكد: «مصر كانت هى الأمل، إذا نهضت مصر فلابد أن ننهض معها، مصر هى المحفّز».
ويعترف «أشرف»، الحاصل على شهادة فى إدارة الأعمال، ويعمل فى أحد بنوك العاصمة دمشق، بأن الأوضاع الإقليمية كسرت الخوف بداخلهم: «القمع موجود منذ عشرات السنين، والخوف وانعدام الحرية، ولكن ما حدث حولنا حفزنا، هل التوانسة والليبيون والمصريون أفضل منا؟ لا.. لم نعد نقبل بهذه المذلة، نريد نظاماً لا تحتكره عصابة أو أسرة حاكمة، نريد نظاماً نستطيع محاسبته عندما يخطئ وتغييره متى نشاء».
وأفاد «أشرف» (24 سنة) بأن الأمن فى البداية كان «يخاف إطلاق النار فى بعض الأماكن، خاصة فى دمشق، فى حى الميدان مثلاً لم يسقط شهداء إلا بعد أكثر من 14 أو 15 أسبوعاً». واستطرد: «لكنه فى أماكن أخرى أطلق النار فى اللحظة الأولى».
ويستند «الأسد» إلى دعم سكان دمشق وحلب، أكبر مدينتين فى البلاد، ولم تخرج فيهما مظاهرات مناهضة على نطاق واسع، بينما تتركز القوى المعارضة فى مدن حمص المغلقة تماماً، وحماة، والقامشلى. وأوضح «رامى» أن «النظام فى البداية كان متخبطاً أو مرتبكاً من هول ما يشاهده، وربما كان هناك صراع فى داخله بين جناحين أحدهما يعارض اللجوء للعنف». وأضاف: «لاحقاً بدأت القبضة الأمنية تشتد، يبدو أن قراراً اتخذ بتصفية ما يجرى ولو بالدم، أو أن جناح الصقور فى النظام استطاع فرض رؤيته».
وأوضح «أشرف»: «فى حى القابون وصلت المظاهرات إلى نحو 100 ألف متظاهر، عندها شعر النظام بأنه مهدد بالفعل، ويبدو أنه قرر أن يستخدم الرصاص، لأنه لو ترك الأمور فإنها ستخرج عن سيطرته وسيواجه مظاهرات مليونية واعتصامات»، وأضاف باسماً: «لسنا فقط من تابع الثورة المصرية، بل النظام أيضاً، وإذا كانت هذه الثورة ألهمتنا فإنها أخافته».
وبالفعل تنحسر بشدة المظاهرات فى دمشق أيام الجمعة عما كانت عليه فى بداية الاحتجاجات، إذ توقفت تقريباً فى الميدان، بينما يتظاهر عدد قليل فى القابون. ويحكى «أشرف» عن كيفية تنظيم المظاهرات فى ظل العنف الأمنى: «فى دمشق كنا نخرج من المساجد بعد صلاة الجمعة فى مظاهرات حاشدة، الآن ذلك لم يعد ممكناً، الحراك المنظم توقف فى دمشق تقريباً»، وأضاف: «نتبع استراتيجية جديدة بدلاً من المظاهرات المعلنة التى يعرف الأمن موعدها ويستعد جيداً لها، تكون هناك مظاهرات مفاجئة، فى الغالب ليلية»، وأوضح: «تقوم التنسيقيات فى أحد الأحياء بتحديد موعد، وتبلغ به المتظاهرين شفوياً، دون استخدام الهاتف أو الإنترنت، ويتجمع عشرات فى أحد الشوارع بعد تأمينه جيداً بأشخاص يراقبون من خلف أسطح العمارات المحيطة». وقال: «ما إن يبدأ الأمن فى الظهور حتى ترسل إشارات فينفض المتظاهرون، ولا يبقى أى أثر»، ولكن هذا الأسلوب فى التظاهر «لا يمكن أن يحشد عدداً كبيراً من المتظاهرين، فقط نحن ننهك النظام ونؤكد له أننا موجودون».
حمص المحاصرة
رغم القول السائد بأن عزل مدينة كاملة عن العالم وارتكاب مذبحة فيها بات مستحيلاً عام 2011 مع تطور وسائل الاتصال وفى ظل النظام الدولى الجديد فإن «الأسد» أثبت عملياً فى حمص أن هذا مازال ممكناً.
قال «ياسر»، الذى سلك طرقاً خفية بين عدة قرى نائية ليصل دمشق قادًما من حمص مستغرقاً 3 أيام: «الحواجز الأمنية فى كل مكان، خرجت من المدينة بأعجوبة، سرت عدة كيلومترات على قدمى لأن اسمى على أحد الحواجز، أنا معرّض للقتل فى أى لحظة». ويحكى ياسر، وهو عاطل حاصل على ليسانس حقوق منذ 3 أعوام، كيف أن «الأحياء فى حمص مغلقة، ولا يسمح بالتجول بين الأحياء إلا بمبرر قوى، هناك نقاط تفتيش وحواجز فى كل شارع تحديداً، وإطلاق النار فى المدينة عشوائى والجثث فى كل مكان»، ويضيف: «القصة بدأت فى حيى بابا عمرو وباب السباع، انشق عسكريون واحتموا فى هذه المناطق، والجيش أغلق هذين الحيين ويقتتل الجنود مع المنشقين، ولا أحد فى الخارج يعرف تحديداً ما الذى يجرى بالداخل، ومن بالداخل لا يستطيع الخروج بطبيعة الحال»، وأكد: «الأمن قتل اثنين من إخوتى، واعتقل الثالث. ألقى بالجثمانين أمام باب البيت بعد تفريغ أحشائهما».
و«حلم حمص» هو مشروع أطلقه «غزال» برعاية الأسد، لإنشاء مجموعة من الأبراج لتصبح «مولات» وفنادق فاخرة فى المدينة، على مساحة 1800 كيلومتر مربع تحتل سوق للخضر والفاكهة جزءاً كبيراً منها، منذ عشرات السنين.
يرى الثوار فى سوريا أن نهاية نظام الأسد وشيكة، نتيجة «غباء النظام» - حسب وصفهم - ويعتبرون أن العنف المبالغ فيه ينم عن تفكك وضعف فى بنية النظام نفسه، وأنه لو كان نظاماً قوياً ذا شعبية لما واجه الشعب بالرصاص، بل كان سيسير فى خطوات إصلاح حقيقية مستنداً إلى شرعية الشارع بدلاً من شرعية الدبابات.
وبما أن الاحتجاجات فى سوريا ليس مسموحاً لها بأن تتحول إلى مظاهرات ضخمة حاشدة، أو اعتصامات فى الميادين، فإنهم يراهنون على خيارات أخرى، قالوا إنه ليس من بينها التدخل الخارجى، بل إعلان الثورة العسكرية المنظمة تحت قيادة الجيش السورى الحر، شرط أن يفتح «الجيش الحر» باب التطوع، رافضين احتمالات العنف غير المنظم، أو انهيار النظام فجأة.
وقال «ياسين» (32 عاماً) وهو مزارع من إحدى القرى المحيطة بحمص: «الثورة فى سوريا بلا رأس، لا أحد يستطيع أن يتحدث باسمها، والحراك فى 250 نقطة فى المحافظات المختلفة لا تنسيق بينها، وبالتالى لا يمكن أن يكون هتاف ارتفع هنا أو لافتة هناك حجة على الثورة»، وأضاف: «ولكن بشكل عام لا أحد يريد تدخلاً أجنبياً، النموذج الليبى لا يسر أحداً، نريد ثورة نصنعها نحن ولو بدمائنا ولا يصنعها لنا الأجنبى، نريد حرية ندفعثمنها لا يحضرها لنا الناتو».
واعترف النشطاء بأن اختيار أسماء بعض الجمع التى أثارت جدلاً لم تكن موفقة، مثل جمعة «المجلس الوطنى يمثلنى» فى إشارة إلى المجلس الوطنى السورى الذى يعبر عن قطاع كبير من المعارضة فى الخارج، والمتهم بدعمه التدخل العسكرى لإسقاط النظام، أو جمعة «هيئة التنسيق لا تمثلنى» فى إشارة إلى هيئة التنسيق الوطنى التى اتهمت بعدم وضوح موقفها بدعم المتظاهرين الساعين إلى إسقاط النظام، وجمعة «الحظر الجوى» التى دعت إلى حظر جوى على سوريا.
واعترف «أشرف» بأن التظاهرات بشكلها الحالى لن تسقط النظام، لكنه أوضح أن ذلك لا يزعزع يقينه بأن النظام ساقط لا محالة، متسائلاً: «لو توقفت التظاهرات كيف سيعيش الأسد فى الأسرة الدولية؟ هذا بات مستحيلاً، لن يكون مقبولاً بعد ما ارتكب من مجازر»، وقال: «النظم الديكتاتورية مثل النظام السورى تسقط فجأة، تتفكك من الداخل عندما يفقد قادة النظام أعصابهم، سيناريو الانقلاب العسكرى وارد من ضباط الصف الثانى، هؤلاء سيسألون أنفسهم: ماذا سيحدث لنا لو هرب هؤلاء القادة فجأة ذات ليلة؟». وأضاف: «ولو لم يتفكك النظام فإن عسكرة الثورة وتحولها إلى مسلحة لم يعودا خياراً بعيداً، منذ أيام هدد قياديون فى الجيش السورى الحر بفتح باب التطوع، وهذا يعنى منحنى جديداً فى الثورة».
وأوضح «ياسر» أنه يرفض العنف غير المنظم، لأن «العمل العسكرى لا يكون عشوائياً كالتظاهر، يجب أن يكون تحت قيادة موحدة تضع أهدافاً استراتيجية وتعرف جيداً ماذا تفعل». وأشار إلى أن «فتح باب التطوع تحرك نوعى لو لم تتوقف السلطة عن القمع، لو توقفت عن القمع ستملأ المظاهرات الشوارع، ولو لم تتوقف سنواجهها تحت قيادة الجيش السورى الحر».
ولكن على الجانب الآخر، يؤكد نشطاء معارضون أن محتجين بدأوا استعمال السلاح بالفعل، وعبروا عن مخاوفهم من تحول الثورة السورية إلى حرب أهلية. وقالت إحدى المعارضات: «فى حمص تعرض علويون للقتل من مسلحين سُنة لمجرد أنهم علويون، لقد بدأ القتل على الهوية، فليرحمنا الله»، وأضافت: «حتى الآن لم يتحول الأمر إلى ظاهرة، ولكن من يضمن ألا نصبح مثل لبنان فى السبعينيات، النظام يغذى فى هذا الاتجاه».