أحيانًا، يصحو المرءُ على خوفٍ مبهم لا سببَ محددًا وراءه، ومتعددة أسبابُه فى آن. الخوفُ من الغد، من المرض، من الشيخوخة، من العَوَز. الخوف على الأولاد، والخوف من غدر الزمان، وهلمَّ جرّا. تلك مخاوفُ إنسانيةٌ طبيعيةٌ، بل ربما صحيّة، لأنها تحُثُّ المرءَ على العمل والأخذ بالأسباب. لكن ثمة مخاوفَ مرضيةً نمطيةً سجّلتها الموسوعةُ السيكولوجية تضمُّ ستمائة نوع من الفوبيا، Phobia. وهى كلمة إغريقية تعنى «الرُّهاب»، وهو الدرجة العُليا من الخوف المَرضيّ. وكل الملحقات التى تتصل بها مفردات إغريقية كذلك.
رهابُ الأماكن الضيقة Claustrophobia، الأماكن الواسعة Agoraphobia، المرتفعات Acrophobia، وغيرها. وبعضها شاذٌّ عجيب، مثل رهبة أشياء محببة للنفس؛ مثل الخوف من الزهور Anthrophobia، من الذهب Aurophobia، من العدالة Dikephobia، من سماع الأخبار السارّة Euphobia، من المعرفة Gnosiophobia، من سماع الموسيقى Melophobia!!! أنا شخصيًّا مصابة بإحدى الفوبيات الشاذة، غير المدرجة فى تلك الموسوعة، لأنَّ لا ترجمةَ إغريقيةً ولا لاتينيةً لها، ولا حتى بأية لغة سوى العربية، ذاك أن المفردة ابنةٌ كاملةُ الشرعية لثقافتنا الإسلامية. أخاف من المسحراتى! صوتُ دقات طبلته يرعبنى! والسبب قديمٌ يعود إلى طفولتى. حين كانت مُربيتى تهددنى لو لم أشرب كوب الحليب سوف تجعل المسحراتى يحبسنى فى «الطبلة»! ركضتُ إلى أبى أسأله ما معنى «طابية»، فقال حصنٌ يختبئ فيه الجنود. واستقرّ فى عقلى الصغير آنذاك، الذى خلط بين الكلمتين، أن المسحراتى رجلٌ ضخم يحمل فوق ظهره حصنًا يحبس فيه الصغار الأشقياء.
ولأننى هذه الأيام أصلُ الليلَ بالنهار فى مكتبى من أجل ترجمة روايتين ضخمتين سوف تصدران عن دار «المدى» ببغداد، فقد صحوتُ هذا اليوم على خوف مروّع من فقدان بصرى! أرجو ألا يتوغّل داخلى ذلك الخوفُ فيغدو فوبيا العماء Scotomaphobia.
ولكى «أُخَوُّفَ» الخوفَ منى، قررتُ أن أفتِّشَ عن رهابه الخاص. ما قاله الفلاسفةُ والأدباء حول «الخوف». فالهجومُ، كما تعلمون، خيرُ وسيلة للدفاع. فوقعتُ على مقولات جميلة، قررت أن أترجم لكم أجملَها، لنحتشدَ جميعًا صفًّا واحدًا منيعًا ضدّ عدو البشرية المزمن: الخوف.
يقول الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت، فى خطابه الأول بعد تولّيه الرئاسة العام ١٩٣٣: «الشىءُ الوحيدُ الذى علينا أن نخافَه، هو الخوفُ ذاته، لأنه بلا اسم، بلا عقل، بلا مبرر، مجردُ رعبٍ يشِلُّ طاقاتنا التى نحتاجُ إليها؛ فنحوّلَ التراجعَ، تقدّمًا». ويقول كولريدج: «فى السياسة، ما يبدأ بالخوف، عادةً ما ينتهى بالحماقة». ووضع فريدريك نوت، الخوفَ على رأس قائمة الدوافع الخمسة للقتل: «الخوفُ- الغيرةُ- المالُ- الانتقامُ- وحمايةُ من تحبُّ». وقال إدجار وليس فى كتاب «دليل الشمعة المجدولة»: «الخوفُ طاغيةٌ مستبدٌّ، أكثرُ رعبًا من مِخْلَعة، وأشدُّ فحولةً من أفعى». وأما «المخلعة»، فهى أداة تعذيب كانت تستعمل فى بريطانيا القروسطية. يتم خلالها مطُّ جسم الإنسان على إطار خشبى مستطيل، حتى يتمزّق. وما زالت هناك نسخةٌ منها فى برج لندن. ويقول المثل الألمانى: «الخوفُ يجعل الذئبَ أكبر حجمًا، مما هو عليه فعلا». ويقول الرومانى بوبليوس سيروس، فى القرن الأول قبل الميلاد: «ما نخافه سوف يمرُّ أسرعَ مما نأمل فيه وننتظره». أما الفاتنة بريجيت باردو فقالت: «الوحدةُ تُخيفنى. تجعلنى أفكر فى الحب، والموت، والحرب. أحتاج إلى أن يتشتت ذهنى ليخرج من القلق، والأفكار السوداء». أما الجميل صلاح جاهين، فقال فى إحدى رباعياته: «سَهّير ليالى وياما لفيت وطُفْت/ وفْ ليلة راجع فى الضلام قُمت شُفْت/ الخوف كأنه كلب سَدِّ الطريق/ وكنت عاوز أقتله/ بس خُفْت/ عجبى!».
أما أنا، فسأقول لنفسى ما قاله فرانك هربرت فى تعويذة بينى جيزيريت «الابتهالُ ضد الخوف»: يجب ألا أخاف. الخوفُ قاتلُ العقل. الخوفُ هو الميتةُ الصغرى التى تجلب المحوَ التام. سوف أواجه خوفى. سأسمحُ له بأن يعبرَ فوقى، ومن خلالى. وحينما يمضى سوف أشخصُ بعيونى الداخلية لأتأملَ طريقه الذى سلك. الخوفُ قد مرَّ ولن يكون هناك شىء. وحدى أنا سوف أبقى».