عاد خالد يوسف إلى حقل الإخراج، بعد غياب سنوات، بفيلم «كارما»، ليثبت أمرين:
أولا: إن الفنانَ أعلى كعبًا من السياسيّ؛ فالحياةُ سخيّةٌ فى مدّ الأرض بالملوك والساسة، لكنها تبخلُ، فلا تهبُنا الفنانَ إلا بشقّ الأنفس.
وثانيًا: إن رسالة التنوير تصلُ عبر الفنّ، على نحو أسرع وأبلغ من جلسات البرلمانات وقرارات الحكومات، لأن الفن يضربُ قلبَ الهدف مباشرةً. والهدفُ دائمًا هو «الإنسان»، الشعوب، المجتمعات. بينما الساسة قلّما يصلوا إلى المواطن وأزماته؛ إلا عبر دربٍ صعبٍ طويل سُلَّمُه.
الفنُّ يخترق سفحَ الهرم، حيث قاعدته العريضة، فيما السياسةُ تلامسُ رأس الهرم الذى لا يسكنه إلا صُنّاع القرار. الفنُّ يتسلّل إلى وعى الإنسان فيُعيد صياغة ثقافته وأسلوب حياته، كأنه مدرسةٌ لمن فاته درسٌ على مقاعد التعلّم.
تطبيق القانونُ يحدُّ من الطائفية، لكنه لا يقدرُ على أن ينتزعَ شوكةَ البغضاء من القلوب المريضة. الفنُّ يقدر. التشريع السليم يحارب الفساد ويضبطُ ميزانَ العدالة المجتمعية، لكنه لا يقدر أن ينتزع من النفوس الهشّة شهوة الظلم ومنزع الاستغلال. لكنّ الفنَّ يقدر. الفنُّ يُهذّب الروحَ ويعيد بناء ما تهدّم من القيم فى منظومة الوعى المجتمعى. لهذا قال أفلاطون: «علّموا أولادكم الفنونَ، ثم أغلقوا السجون». صدق.
فيلم (كارما) يحاول معالجة قيمتين اختلّ ميزانُهما منذ نصف قرن فى المجتمع المصرى. العدالةُ الغائبة، والطائفيةُ المستشرية. ولأن الفنَّ يتوجّه للإنسان، فقد اختار المخرجُ أن يعالجَ أزمةَ الإنسان بقانون الإنسان، وليس بقانون القضاء. لهذا اختار قانون (الكارما) الذى يقضى بأن يُعاقِبَ الإنسانُ نفسَه، إن أخطأ، وأن يُثيبَها إن أحسن صنعًا.
فالكارما، كما فى الأدبيات الهندية القديمة، فلسفةٌ تقول إن الأفعال الطيبةَ تأتى لصانعها بالخير، كذلك الأفعالُ الشريرة، تعود بالشرّ على مرتكبها. فحسابُ الإنسان على الأرض، وليس مؤجلاً فى السماء. وليس هدفُ (الكارما) هو العقاب، بل تصحيح مسار المخطئ؛ حتى يُعيد تهذيبَ نفسه فيلحق بركب الصالحين. فكل ما فى حياة الإنسان هو نتاجٌ عادل لما صنع من شرور، أو لما لم يصنع من خير. الكارما هى التطبيق الفلسفى لقانون نيوتن: «لكلِّ فعلٍ ردُّ فعل، مساوٍ له فى المقدار ومضادٌّ له فى الاتجاه». لهذا ترسل الكارما برسائلَ لبنى الإنسان طوال الوقت حتى يُعدّل مساره، ويُصوِّب سلوكه. ففى قضية العدالة لا تُعفى الكارما المظلومَ، مثلما لا تُعفى الظالم. فالفقراء قد يكونون ضحايا الفساد وقرابين الأثرياء، لكنهم أيضًا غير معفيين من المسؤولية عن فقرهم، لأنهم لم يعملوا بما يكفى للخروج من دائرة الفقر. كذلك الطائفية، قد تكون عقابَ الكارما لمجتمع لم يُعلّم أبناءه فى طفولتهم قيمَ التحضّر والعدل والمواطنة.
رجلٌ مسلم فائقُ الثراء، غليظُ القلب على الفقراء، لم يعبأ يومًا بمحنة مواطن صعيدى تعس يسكن على الضفّة الأخرى من النهر، تكالبت عليه المحنُ كونه فقيرًا فى مجتمع رأسماليّ، ومسيحيًّا فى مجتمع طائفيّ؛ تستقوى ذقونُه على مستضعفيه. فجاءت الكارما لتضبط ميزانَ حياته الباذخة الأنانية؛ بأن غرستْ داخل المسلم الثريّ، نصفَه المسيحيَّ المطحون، ليحيا حياتَه ويقاسى عذاباته. فلسفةٌ عميقة تنادى بأن يفحصَ المواطنُ المصريُّ ذاتَه ليبحث عن شِقّه وشقيقيه داخله. فداخلُ المسلم مسيحيٌّ يحيا، وداخل المسيحيّ مسلمٌ يتنفس. والمحصلةُ النهائية: إنسانٌ سَويّ متحضّر غير طائفى.
ولا أحبُّ أن أحرقَ الفيلمَ الجميل بأن أفضَّ تعويذته وأسرد أحداثه؛ لأنه بالحق فيلمٌ يستحقُّ أن يُشاهَد وأن يمرَّ بهدوء على مصفاة التأمل والتفكير؛ فلا بأس أن نُصلح من أفعالنا وأن نُهذِّب أرواحَنا، قبل أن يأتى عقابُ الكارما القاسى وتنفثَ لعنتَها.
تحية احترام لنجوم كبار صنعوا قطعة الفن الجميلة هذه. (دلال عبدالعزيز) كانت أستاذة فى أداء دور الأم المسيحية الشعبية (الِمدأدأة) التى تحمل حكمة الفلاح الفصيح. و(زينة) برعت فى أداء دور بنت البلد الفقيرة التى استعارت من شموع الكنيسة لتضىء فى غرفتها الفقيرة ليلةً رومانسية مع زوجها الذى كسره الفقرُ والعوز. فكأنما تسرقُ من قلب الله الطيب، شعاعَ حبٍّ يرطّب حياتهما الخشنة. و(خالد الصاوى) برع فى دور الطبيب النفسى المثقف، فكان الراويةَ الذى يُخرج لاوعى مريضه المأزوم إلى منطقة وعيه، فيرى سَوأته ويُشفى. وهنا ملاحظتى الوحيدة على الفيلم. كنتُ أفضِّل ألا يشرح الفيلمُ نفسَه، وأن يثق قليلا بذكاء المشاهِد. وتحية تقدير للصديق المبدع (عمرو سعد) على أدائه المزدوج الصعب فى دوريِ البطل المسلم والمسيحيّ بخفة ظلٍّ وذكاء وبراعة. وتحية لصديقى (خالد يوسف) بعودته الرائعة مع هذا الفيلم الخالد.
twitter:@fatimaNaoot