شباب تحركهم الأحلام، وحناجر متحمسة، وقبضات مشدودة، و«الشعب يريد إسقاط النظام»، مازالت تدوّى فى سماء الميدان، والدماء أيضاً مازالت تسيل على أرضه، شهيد وراء شهيد والقائمة تزداد طولاً، وأحلام الشباب تزداد رسوخاً، والفجوة بينهم وبين الواقفين أمام حلمهم تزداد اتساعاً وتملؤها الدماء. أربع حكايات لأربعة شهداء، حلموا فسالت دماؤهم، حلموا فغدرت بهم أياد سوداء برصاصات مطاطية أو نارية، بالغاز أو بالدهس، أياد سوداء تقتنص الأرواح.. أرواح تفدى الوطن لتمنحه حريته. «شهاب وأحمد وبهاء ومحمد» 4 شباب لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين عاماً، وأعمارهم مجتمعة تقترب من عمر رئيس خلعوه ضحوا بها من أجل مصر، ذهب أحدهم وهو يقول «هو أى حد ينول الشهادة؟!» والثانى يعترض «مصر محتاجة كل دقيقة مننا».. ذهبوا على خط مواجهة بصدورهم العارية لأنهم حلموا بوطن أجمل. إنها حكاية 4 زهرات فى بستان الوطن
بهاء السنوسى.. الاستشهاد مع سبق الإصرار والترصد
قبل استشهاده بدقائق، قال بهاء السنوسى ابن الإسكندرية لأصدقائه: «تعالوا ناخد صورة جماعية مع بعض علشان لما نستشهد يسموها صفحة (كلنا مع بعض)، ثم غاب وحيداً وترك الصورة للأصدقاء، قبل رحيله بأيام كتب يقول «عشان نابه ومخلابه.. تلاقى الكل أحبابو، ودنيا تخاف من القوة.. وجو الدنيا مش هوه، بشوف ناشط غريب فى الدوح، بيرقص رقصة المدبوح» وقدم «السنوسى» عددا من النصائح ختمها بـ«أعظ نفسى وإياكم بالصبر والوعى والحذر وألا يخدعنكم أحد تحت أى شعار أو إغراء أو ابتزاز، فلقد تحملنا كثيرا وصبرنا كثيرا، وحان وقت بناء بلادنا وتحرى المصلحة العامة».
تحرى بهاء مصلحة البلد، وذهب للتظاهر أمام مديرية الأمن فى الإسكندرية، مطالباً بتقويم المسيرة، وهناك نال الشهادة، التى قال عنها قبل لحظات من استشهاده: «الشهادة دى مش أى حد ينولها»، بهاء الدين السنوسى، صاحب الـ25 ربيعاً، خريج كلية التجارة، الذى ناضل فى الموجة الأولى من الثورة، وانفصل بعدها من جماعة الإخوان المسلمين، لينضم إلى حزب التيار المصرى مع عدد من زملائه، أنهى عمله يومها، وذهب إلى مديرية الأمن، وهناك لقى ربه ونال الشهادة. يروى صديقه حسن البغدادى تلك اللحظات بقوله: «كان (السنوسى) يلتقط بعض الصور للأحداث، حتى فوجئنا بسقوطه و2 آخرين، فى تمام الحادية عشرة والنصف دون أن نسمع صوتا للطلقات، تبعها إطلاق الغازات المسيلة للدموع، ثم سقط بهاء».
آخر ما كتبه الراحل بهاء السنوسى
بشوف المجلس فارد بالهوى باعو.. وأتباعو
نشرهم فى الفضا جاعوا
ثوار تانين صغار مساكين... جواع لكن لا هم نايمين ولا صاحيين ولا صاحيين
عشان نابو ومخلابو... تلاقى الكل أحبابو
ودنيا تخاف من القوة... وجو الدنيا مش هوة
بشوف ناشط غريب فى الدوح... بيرقص رقصة المدبوح
بهفة ريح ساطع عشو... وفين حيروح
يا صياد الثوار حافظ على الخرطوش
ده ميت ثائر كمان قدى ما يستاهلوش
حداك الفِل لو تضرب على وكرو... تلاقى اللحم متكوم ولابيكلوش
طاوعنى ارميها من إيدك.. طاوع وارجع
هزه الكرسى لا حتفيدك.. ولا تنفع
شفلك طير تانى... شفلك طير تانى
وأعيش أنا مرتاح الباااال
كما وجه السنوسى فى رسالة أخرى أخيرة كلمات لبعض الكيانات السياسية والقيادات بعنوان «شىء فى صدرى» جاء فيها:
الإخوان المسلمون:
أنتم عانيتم على مر العقود، عانيتم من الحبس والقهر والتشريد والاعتقال، لكم كل الحق فى جنى ثمار ما زرعتموه وما صبرتم عليه وما كنتم تصبون إليه ولكن اتقوا الله فى شعب مصر اتقوا الله فى أنفسكم.
التيار السلفى:
أنتم جماعة من المسلمين تتحرون الصدق وتبتغون مرضات الله تعالى، أعلم أن جلكم مخلصون لدين الله تريدون رفعته وإعلاء شأنه ولكن يا إخوانى لينوا بين يدى إخوانكم ولا تشُقوا على الناس فينفروا من دين الله واعتمدوا فقه الخلاف فيما بينكم وبين من يخالفكم الرأى، ناظرين للصورة الأشمل للوطن إعمالاً لمبدأ درء المفاسد خير من جلب المنافع.
شباب ائتلاف الثورة:
أنتم الشباب الذين كانوا وقود الثورة، أنتم من حملتم رؤوسكم على أكفكم وكنتم تبتغون إصلاح البلاد وإزالة الاستبداد الذى تفشى فى البلاد، فلا تكونوا مثل ما ثرتم عليه لا تكونوا مستبدين حتى لا ينفر الشعب منكم، ولكم فى نتيجة الاستفتاء عبرة، وقد حان العمل بالسياسة والسياسة هى علم ما هو متاح فاعملوا وجاهدوا وأخلصوا النوايا.
المجلس الأعلى للقوات المسلحة:
أنتم من حمى مصر أنتم من ساند الثورة وأزال الظلم والطغيان ووقفتم موقف المساند لثورة الشعب إلى أن حققت جل المطالب، ولكن يجب أن تتعلموا ممن سبقكم، يجب أن تكونوا دائما متقدمين خطوة عما يطلبه الشعب، بمعنى أن تعلموا ما يجول فى ذهن عامة الشعب من هواجس وأن تتخذوا إجراءاتكم قبل أن تتحول هذه الهواجس إلى مطالبات ملحة.
التأخر ليس فى مصلحتكم ولا فى مصلحة البلاد فكونوا دائما سابقين.
شعب مصر العظيم:
أعظ نفسى وإياكم بالصبر والوعى والحذر وألا يخدعنكم أحد تحت أى شعار أو إغراء أو ابتزاز فلقد تحملنا كثيرا وصبرنا كثيرا وحان وقت بناء بلادنا وتحرى المصلحة العامة.
شهاب الدكرورى.. الشهادة تحت عجلات المدرعة
شهاب الدين أحمد إبراهيم الدكرورى، ولد فى قرية السواقى بمدينة الفيوم، واستشهد فى التحرير، شيّع جنازته حوالى 3000 مواطن، واستشهد وسط أكثر من 50 ألفاً. فى السواقى بدأت الحياة، ومر بالتحرير، وعاد ليدفن فى السواقى.
تستطيع أن تجزم بأن إيقاع هتافات «الشرطة العسكرية.. أسوأ من الداخلية» و«يسقط يسقط حكم العسكر» ظل مصاحبا لجثمان الشهيد فى رحلته الأخيرة، كما صاحبه فى آخر لحظاته فى ميدان التحرير الذى نزل ليتظاهر فيه قبل أن يختنق ويسقط لتأتى مدرعة وتدهسه ثم تتركه جثمانا زكياً فى الشارع.
وشهاب الدين أحمد محمد إبراهيم الدكرورى من مواليد 3 مارس 1986 بمحافظة الفيوم، وحاصل على بكالوريوس تجارة من أحد المعاهد العليا، ولديه مشروع خاص بطباعة وتصوير المستندات داخل محكمة الفيوم، وعضو بحزب التيار المصرى الذى أسسه شباب ثورة يناير، ولديه شقيق فى الصف الثالث الثانوى، وشقيقتان، إحداهما تصغره بثلاث سنوات، والأخرى تكبره.
والده مدير مستشفى حميات الفيوم، ووالد الشهيد يصفه بـ«بدمث الخلق»، وصديقه عبدالرحمن بـ«المخلص لمصر»، وبين الاثنين تبقى صفة الشهيد هى الحقيقة التى أقرها الميدان، هناك حيث صلى شهاب فى عمر مكرم، وقرر الذهاب للدفاع عن أصدقائه فى محمد محمود، رافضا نصيحة صديقه بالبقاء، قائلا له: «مصر تحتاج إلينا فى كل دقيقة ولا وقت للراحة».
يكمل «عبدالرحمن» الرواية: خرجنا للميدان، وفى شارع محمد محمود وجدنا حشوداً كثيفة من الثوار، واشتباكات مع الأمن الذى كان يستخدم العنف المفرط من قنابل غاز ورصاص حى وخرطوش ومطاطى، وفى لحظة أطلقت قنبلة دخان بجوار شهاب الذى أصيب باختناق، وفى الوقت نفسه كانت مدرعة تابعة للشرطة تحاول دهس المتظاهرين، فسقط شهاب بين الأقدام حتى صدمته المدرعة، ثم حملناه سريعا للمستشفى الميدانى، لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة هناك. ويُكتب فى تقرير وفاته أن السبب «إصابته بحالة شديدة من الاختناق وكسر فى الجمجمة مما أدى إلى وفاته».
«محمد عبادى».. طلقة مطاطية فى صدر طالب الثانوية
داخل منزله بمنطقة البراجيل جلس بجوار والديه يشاهد التليفزيون لمتابعة أخبار الاشتباكات بميدان التحرير.. التفاصيل لا تتوقف ومشاهد العنف تزداد أمامه.. الساعة تقترب من العاشرة مساء لتعلن وزارة الصحة عن قتيل وسقوط مئات المصابين، يصرخ حزناً على الدماء التى تسيل ويدخل إلى غرفته مسرعاً ومن خلفه والده.
حوار قصير يدور بين الأب وابنه محمد عبادى، طالب الصف الثانى الثانوى، الذى لا يتعدى الـ19 عاما، والأخير يرتدى ملابس الخروج ليستعد للنزول إلى ميدان التحرير، يسأله الأب «إنت رايح ميدان التحرير.. أنا مش همنعك بس فهمنى إنت رايح ليه.. هتقف فى صفوف الاشتباكات والمعركة ولا هتروح تساعد فى المستشفى الميدانى؟».. يرد الابن بقوة وثقة: «لا أنا رايح أقف فى الصفوف الأولى».. قبل أن يكمل الابن كلمته يرد الأب بكل قوة «خلى بالك من نفسك، بس قول لوالدتك إنك رايح المستشفى الميدانى علشان تسيبك تنزل».
يغادر الابن المنزل بعد حضن طويل لوالدته ونصائح لا آخر لها، يقطع الطريق فى 10 دقائق ليصل تقريبا فى العاشرة والنصف، يبحث عن مكان له بين الصفوف الأولى يدافع بقوة عن الميدان ويبحث عن طريقة لإجبار الداخلية على التراجع إلى محيط مبنى الوزارة، لكن طلقة مطاطية منعته من الاستمرار لأكثر من ساعة فى صفوف الاشتباكات ليسقط غارقا فى دمائه بعد اخترقت الرصاصة صدره.
داخل منزله يجلس الأب وبجواره والدته، يرن هاتفه ويظهر اسم ابنه، مكالمة لا تتعدى الـ10 ثوان، يخبره مجهول «ابنك مصاب ونقلناه على المستشفى».. كنت أشعر أنه لن يعود - الكلام على لسان الأب - حماسه وهو يقول لى سأذهب لأدافع عن الميدان كانت تؤكد لى أنه لن يعود سالما.. بعد المكالمة التى أخبرتنى أنه أصيب هرولت إلى المستشفيات القريبة من الميدان ووسط البلد ولم أجده إلا فى الصباح فى مشرحة زينهم.. حق ابنى لن يضيع، الأمر لن يتوقف هذه المرة على محاسبة قيادات الداخلية وبعض الضباط ولكن المشير طنطاوى هو من أعطى الأمر لمنصور عيسوى.
يكمل الأب حديثه: «التليفزيون المصرى كان يقول فى بداية الأحداث أن من فى التحرير بلطجية، إذا كان ابنى الطالب فى الصف الثانى الثانوى بلطجياً فما هو موقف ضابط الشرطة الذى لم يحصل على نفس مجموع ابنى فى الثانوية العامة ودخل إلى كلية الشرطة بالواسطة لكى يقتل المصريين.. والدته فى غيبوبة منذ استشهاده، وحق دموعها وحق دمائه لن يضيع هدراً».
أحمد محمود.. الشهيد الأول لـ«سبت الغضب»
أحمد محمود أحمد، أول شهيد يسقط فى أحداث اشتباكات الداخلية التى استمرت طوال الأيام الأربعة الماضية، سقط برصاصة فى الصدر ونقل إلى مستشفى المنيرة فى الثامنة مساءً، لم يشارك سوى ساعتين فقط، وكان يقف فى الصفوف الأولى، ولم يجد أمامه سوى الحجارة لصد هجوم قوات الأمن المركزى فى ميدان التحرير، أنهى عمله فى الخامسة والنصف السبت الماضى، وهو يعلم ما يدور فى «التحرير» بصحبة صديقه توجها إلى الميدان عبر مترو الأنفاق ومنعتهما الغازات المسيلة للدموع عن النزول فى محطة أنور السادات ونزلا فى سعد زغلول ليقرر صديقه العودة إلى المنزل، وفشل فى إقناع «أحمد» بالتراجع عن التوجه إلى التحرير لتوقف رصاصة فى الصدر حماسه ويبكى جميع من حوله على دمائه، التى سالت فى شارع محمد محمود، ليحمله شاب خلف دراجة بخارية إلى مستشفى المنيرة فى محاولة لإسعافه دون جدوى.
داخل مشرحة مستشفى المنيرة وقف الأب ومن حوله أصدقاء الشهيد وحاول عدد كبير من ضباط مباحث قسم السيدة زينب ومديرية أمن القاهرة إقناعه بعدم إثبات استشهاد نجله بمحضر الشرطة مع الاحتفاظ بحقه بطرق ودية، ورفض الأب وهو يصرخ فى وجوههم مردداً: «تقتلوهم وكمان مش عايزينا نجيب حقهم.. اقتلونى أنا كمان، وأنا مش هجيب حقه».. تستمر محاولات الشرطة، ولكن أطباء المستشفى يؤكدون للأب أن الإشاعة أثبتت أن رصاصة مطاطية هى التى اخترقت صدر «أحمد» ويصر بعدها الأب على التشريح للحفاظ على حقه.
قال مصطفى، صديق الشهيد، الذى كان بصحبته يوم الحادث: «غادرنا العمل فى الخامسة تقريباً، وكنا نعلم جيداً أن هناك اشتباكات فى التحرير، اتفقنا على الذهاب سوياً للمشاركة، لكن الغازات المسيلة للدموع منعتنى من مصاحبته، كنا دائماً نتحدث عما يحدث فى البلد، ونؤكد أن نزولنا فى 28 يناير لا فائدة منه والآن لأن المشير طنطاوى يريد أن يكون رئيساً، لكن تفاؤله كان يمنع إحباطى ويؤكد لى أن الثورة الثانية قادمة ولم أكن أعلم أنها سوف تحرمنى من رفيق عمرى».
داخل منزلها تجلس الأم فى هدوء ومن حولها صورة الشهيد، تبكى وهى تعلم أن كل ما بقى لها مجرد صور وتقرير طبى يؤكد أنه استشهد فى ميدان التحرير، لا تتوقف عن الصراخ وتقول: «كنت أحاول منعه دائماً من الاشتراك فى المظاهرات والنزول إلى التحرير وقبل الثورة، لم يكن له أى نشاط سياسى، وصور شهداء 28 يناير هى التى دفعته إلى الدخول فى عالم السياسة»، ورددت: «أخذوا نور عينى دون سابق إنذار لو كنت أعلم أنه سيكون هناك للاستشهاد كنت صاحبته لأشاهد بطولته وهو يطارد الأمن المركزى وأرى الضابط الذى قتله.. لن أترك حقه».
أسفل المنزل فى سرادق العزاء، جلس الأب يحكى لمن يحضر عن بطولة ابنه وكيف كان ينزل فى جميع المظاهرات والمسيرات خلال الشهور الماضية، وكان يبكى فى نهاية كلامه، يبكى بدموع لا تتوقف ولن تتوقف.