لقد ضيّقوا العالم علينا. خدعونا حين قالوا أن العالم واحد، وأننا مقبلون على مستقبل مشرق لا حدود فيه بين الدول ولا تمييز بين الشعوب والأعراق والديانات.. صدقناهم فمشينا خلف الخدعة الكبيرة، فإذا بالعالم يتمزق، والدول تتفتت، والانشقاقات تتسع، والعنصرية تزداد عمقاً لتضرب بجذورها باطن الأرض.
صدقناهم فرددنا خلفهم كل شعار رفعوه عالياً، يطالب بثورة على الظلم والقمع والقهر، ومنادياً بالوحدة والحرية والعيش المشترك والكريم لكل إنسان.. لم ننتبه أننا نحن من يحمل تلك الشعارات ويدور بها في الشوارع، بينما يتفرغون هم لتمرير التفاصيل في الخفاء، صفقات واتفاقات لا نعرف عنها شيئاً إلا حينما تصير واقعاً مفروضاً علينا. لم ننتبه أننا الوقود التي يشعلون بها النيران، لنحترق بها ويبقى الرماد فيشكلون منه العالم وفق مصالحهم.
الصدمة التي تركها فينا إعلان الرئيس الأمريكي «المغرور» دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، كشفت الغشاوة عن أعيننا، ونحن من كنا نحسب أننا تيقظنا وعرفنا وتعلمنا وتحصنا لكثرة الضربات التي تلقيناها، فإذا بالصدمة تهزنا من جديد، لكنها هزة تاريخية، تقلب كل الموازين والمعادلات وتعيدنا إلى نقطة الصفر، وتعود بالشريط إلى عدة نكسات عاشتها هذه الأمة، وتعيدنا إلى عام 1917 حيث الوعد المشؤوم، و1948 حيث النكبة، و1967 حيث النكسة، وتأتي جريمة ترامب بعد مرور قرن على الوعد المشؤوم..
صوت فيروز عالق في أذهاننا، لطالما عرفنا القدس من حنين وشجن ذلك الصوت، نحن من لم تطأ أقدامنا تلك الأرض المقدسة. «يا قدس.. يا زهرة المدائن.. عيوننا إليك ترحل كل يوم، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد.. يا ليلة الإسراء، يا درب من مروا إلى السماء..»، منذ 1967 ونحن نغني يا قدس، وننتظر ونتأمل، إلى أن صارت القدس لهم. ما هذا البؤس الذي يحيط بنا؟ كيف نعيش الخدعة لسنين طويلة، وندفع الأثمان غالية في كل دولة عربية وعلى كل موائدنا بلا استثناء، ليأتي رئيس متهور مغرور يقلب الطاولة فوق رؤوس الجميع، وبشطبة قلم، وبذالك التوقيع العجيب والحركة العصبية والعنجهية الظاهرة، شطب كل العمر وكل التاريخ وكل الحقائق، وتباهى أمام الكاميرات وكأنه يقف فوق قبور كل من دفعوا أرواحهم ثمناً للقضية، وكل من دفعوا أرواحهم ثمن تداعيات القضية على دولهم!
هذا الرجل الذي يعشق «الشو» والاستعراض أمام الكاميرات والإعلام، لم يكتف بارتكابه جريمة بحق التاريخ والمنطقة، بل وقّع بكثير من الغرور والتباهي والتحدي على إهانة كل مسيحي ومسلم على وجه الأرض. القدس لهم؟ بأي حق؟
لا شيء باق على حاله، العالم يتغيّر. لكنه يتغير إلى الأسوأ. لماذا يتم تفتيت الشعوب وتقسيم الأراضي والدول والمناطق؟ اليوم أصبح الجواب جاهزاً وعلنياً لا يحتاج إلى تحليلات وتكهنات ودراسات.
ترى هل سنكتفي بالحزن يومين أو أكثر بقليل، ثم نلتفت إلى كرة القدم والصراعات على السوشال ميديا؟ هل ستصير «القدس» حكاية ترويها الأجيال القادمة عن تاريخ أجدادهم وبخجل كبير مما آلت إليه أحوالهم بسبب الآباء؟
«الغضب الساطع آت».. قالتها فيروز قبل 50 عاماً، فهل حان موعده الآن أم أنه مجرد كلام في كلام بعد أن تحولت حياتنا إلى مكلمات جوفاء؟
الغضب الساطع آت؟ أم أننا سنكون الشهود على مقابر تاريخنا وتراثنا وقضايانا ووجودنا؟