مع حلول شهر سبتمبر حتى نهاية نوفمبر من كل عام، تتحول بعض المحافظات إلى منصات لإطلاق الدخان والسموم، من خلال الأدخنة التى يتسبب فيها حرق بعض المزارعين قش الأرز، بهدف التخلص من القش دون تكلفة أو عناء، ما يؤدى إلى أضرار صحية وبيئية ويغلق الباب أمام الاستفادة من مخلفات الأرز، فى عدد من الصناعات، التى توفر العملة الصعبة للدولة.
من جانبها، أطلقت وزارة البيئة العام الجارى، حملة تحت عنوان «قش الرز بيروح فين؟»، للإعلان عن عدم جمع الوزارة القش من الفلاحين، لكن عن طريق المتعهد الصغير المسؤول عن الجمع من المزارع، للحد من الحرائق والتلوث الهوائى الذى يسببه الحرق الذى تصل نسبته إلى 42%، خاصة أن الغازات المنبعثة عن عملية حرق قش الأرز وعلى رأسها غاز ثانى أكسيد الكربون، تؤدى إلى مزيد من التآكل فى طبقة «الأوزون»، ما يؤدى إلى تغير المناخ بشكل عام.
وفى إطار مواجهة تصاعد معدلات حرق قش الأرز حررت وزارة البيئة 6500 محضر ضد مخالفين، بمعدل أقل من العام الماضى بنسبة 40%، وسجلت محافظة الدقهلية قائمة المحافظات الأكثر حرقاً للقش، وجاءت محافظة الشرقية فى المرتبة الثانية، بينما احتلت محافظة كفر الشيخ المركز الأخير فى حرق قش الأرز.
على طريق (القاهرة- الإسكندرية) الزراعى، ترى على امتداد البصر أدخنة متصاعدة من داخل قطع من الأراضى الزراعية تصنع سحابة تمتزج ما بين اللونين الأبيض والأسود، وأكوام كبيرة من قش الأرز تفترش الأرض الخضراء فى انتظار الحرق أو الفرم، فى حين تستقبل أذناك أصواتاً صاخبة من عدد محدود من الماكينات الزراعية تلتف حولها مجموعة من الفلاحين الذين انقسموا إلى عدة فرق ما بين تشغيل ماكينة فرم قش الأرز وتجميعه ووضعه فى الماكينة لفرمه ثم تخزينه فى (شكائر).
وخلف البقايا المتطايرة من ماكينة فرم قش الأرز، وقف أحمد، ذو الـ13 عاماً، لم تمنعه تغطية وجهه بمنديل كبير أخفى ملامحه، من استنشاق هوائها وقد تناثرت على جسده أعواد من قش الأرز بشكل عشوائى، وكسا عينيه اللون الأحمر.
ينحنى الطفل ليلتقط حزمة كبيرة من أكوام قش الأرز يضعها داخل ماكينة بدائية تفرم القش خلال دقائق يحاول فيها استجماع قواه ليستكمل باقى مهمته الشاقة.
لم تكن عقارب الساعة قد تجاوزت الثامنة صباحا حينما جلس الحاج حمادة، الرجل الخمسينى، يستند بظهره أسفل شجرة يستظل بها من حرارة الشمس، يتابع فرم قش الأرز ويصدر تعليماته إلى مجموعة من الفلاحين بتوزيع جزء منه على الأرض بطريقة مستوية لحين حرقه فى المساء.
«اللى عنده قش رز زى تاجر المخدرات اللى مخزن الحشيش فى بيته وخايف من البوليس يكبس عليه».. هكذا وصف حمادة عونى أحد المزارعين بقرية الزنكلون بمحافظة الشرقية، موقف الفلاحين فى تعاملهم مع أزمة قش الأرز، وقال: «قش الرز هم تقيل، أنا مزارع على قد حالى مستأجر فدان أرض زراعية لزراعة الأرز، وفى وقت حصاد المحصول باقف مكتوف اليد مش عارف أعمل إيه فيه.. لو حرقته وزارة البيئة بتحرر لى محضر بعشرة آلاف جنيه، ولو فرمته كسماد للحيوانات بحتاج أدفع أجرة عمال توصل 70 جنيه للفرد الواحد فى اليوم وماكينة فرم القش بتكلفنى 80 جنيه فى الساعة الواحدة».
ورغم زراعته محصول الأرز على مدار الـ 20 عاماً الماضية إلا أن عبدالعزيز فرج، أحد المزارعين بقرية الزنكلون- محافظة الشرقية، قرر عدم زراعته العام المقبل تجنبا للصعوبات التى يقابلها هو وغيره من المزارعين.
«الرز مبقاش يجيب همه».. كلمات عبر بها فرج عن معاناة الفلاح فى زراعة محصول الأرز، وقال: «لم تعد زراعة الأرز كما كانت فى السنوات السابقة، فالفلاح يعانى بدءا من الحصول على الكيماوى والأسمدة من الوحدات الزراعية، التى لا تتوافر غالبا، فيضطر إلى شرائها من السوق السوداء بأسعار مرتفعة، بسبب غياب الرقابة على التجار والأسعار مروراً بارتفاع تكلفة اليد العاملة وانتهاء بالهدر الذى يحدث للمحصول.
وقال محمد ياسين، أحد المزارعين: «الزراعة هى روح الفلاح، مفيش فى إيدينا حاجة نعملها إلا إننا نزرع لأن لو أرضنا بارت مش هنشتغل، بالإضافة إلى معاناة عدد من المزارعين من قلة المياة، وهى الأزمة التى لم يتحدث عنها كثيرون، وللأسف أصبحت أراض كثيرة تعانى من نقص شديد فى مياه الرى غير المتوفرة وتسبب ذلك فى العام الماضى فى بوار الكثير من الأراضى واضطر البعض إلى رى أرضه من خلال مياه الصرف الصحى قبل موت المحصول».
أزمة قش الأرز التى تواجه الفلاحين كل عام خاصة حالة الخوف من دفع غرامات مالية، دفعت عدداً منهم إلى إقامة مصنع بدائى لتدوير قش الأرز، إلا أنها لم تستمر طويلا، فعلى بعد 8 كيلومترات من مركز أبوحماد بمحافظة الشرقية وداخل قرية «بحطيط» أقيم مصنع داخل الأرض الزراعية لتدوير قش الأرز أحد المحاصيل التى تشتهر بها المحافظة، إلا أنه لم يستمر طويلا، وتحول إلى مخزن لعلف الحيوانات.
وعن أسباب غلق مصنع تدوير قش الأرز المملوكة للأهالى، قال أحمد عبدالرؤوف، فلاح: «بسبب المحاضر التى تحررها وزارة البيئة إلى جانب تكلفة فرم قش الأرز لاستخدامه كسماد للحيوانات فكرنا فى إقامة مصنع مكشوف لتدوير قش الأرز على مساحة فدانين، إلا أنه لم يستمر طويلا وقامت البيئة بغلقه بحجة أنه ملوث للهواء».
حرق القش لا يتم بصورة عشوائية أو طوال ساعات النهار، لكن له «أصول» يعرفها الفلاح وساعات معينة من النهار لابد من الحرق فيها، كشف عنها أحمد ربيع وقال: «قبل الحرق يجب فرش قش الأرز على الأرض، لأنه لو تم إشعال النيران فيه وهو على صورة أكوام لن يشتعل بسهولة وسيصدر عنه دخان كثيف قد يصل إلى 72 ساعة كاملة، إلى جانب أنه لا يتم حرق قش الأرز فى ساعات مبكرة من النهار، لكن يتم حرقه بدءاً من الساعة العاشرة صباحاً وحتى الرابعة عصراً أو فى ساعات متأخرة من الليل تبدأ من العاشرة ليلاً لمنع تساقط قطرات الندى عليه التى تعوق من سرعة احتراقه».
الخوف من اشتعال الحريق فى أكوام قش الأرز المتراصة على الطريق الزراعى، دفعه إلى المبيت بجوار القش يومياً، واستئجار ماكينة مطافئ بدائية لإطفاء الحريق فى أى لحظة «لو القش اتحرق وقلت إلحقينى يا مطافى تكون البلد ولعت وأروح أنا فى حديد».. هذه الأسباب كانت المبرر وراء استئجار محمد عبدالهادى الفلاح بقرية «كفر العزازى» بمركز أبوحماد ماكينة مطافئ بدائية تكلفه يوميا 500 جنيه.
وقال: «استأجرت 4 فدادين على الطريق الزراعى لزراعة الأرز، وبعد حصاد الموسم قمت بجمع قش الأرز على الطريق، ولا أنام الليل لأنى أضطر إلى المبيت بجواره بالتناوب مع ابنى الأكبر خوفاً من اشتعال النيران فيه، لأنه سريع الاشتعال، وممكن يولع فى ثانية لو اترمى عليه عقب سيجارة، واستأجرت عربية مطافى بخراطيم طويلة ركنتها على بعد أمتار من قش الأرز لإطفاء النيران فى حال اشتعال الحريق فى القش، والتى تستقطع من قوت أبنائى لحين التصرف فى قش الأرز الذى يمثل كابوساً فى حياتى». وخلف لافتة أصبحت حروفها باهتة لدرجة يصعب تفسيرها، وعلى مساحة فدانين فى قرية «كفر عزازى» بمركز أبوحماد يوجد مصنع لتحويل قش الأرز إلى غاز الميثان، وبدأ العمل فيه من عام 2006 إلا أنه توقف عن العمل بعد مرور أربعة أعوام، ليظل المصنع متوقفاً عن العمل حتى الآن. ذكر أحد العاملين بالمصنع أسباب توقف المصنع وقال: «فى عام 2005 اتفقت وزارة البيئة مع دولة الصين على توريد وتركيب مصنعين فى محافظتى الشرقية والدقهلية، لتحويل قش الأرز إلى غاز الميثان، وبدأ العمل فى المصنع فى عام 2006 إلا أنه لم يستمر العمل فيه سوى 4 أعوام، توقف بعدها المصنع عن العمل بسبب كثرة أعطال الماكينات وعدم وجود قطع غيار لها، وعدم توافر الحد الأدنى للتأمين ضد أخطار الحريق بالمصنع، ما يعرض حياة العاملين به للخطر».