يصف الكثيرون، خاصة العلماء من أبناء جيله، الدكتور على جمعة، مفتى الجمهورية، بأنه محمد عبده العصر الحديث، بسبب التطور الكبير الذى أحدثه فى دار الإفتاء، وسعيه المستمر نحو التجديد، انطلاقا من المنهج الوسطى المعتدل، الذى تقوم عليه الشريعة الإسلامية، ورفضه التيارات المتشددة، التى بدأت تطفو على السطح من جديد.
«المصرى اليوم» التقته. وقال خلال حواره معها إنه تعرض لضغوط شديدة من النظام السابق، بسبب فتواه التى رفض فيها توريث الحكم، وأكد أنه متفائل جدًا بمستقبل مصر وأنها ستعود أقوى مما كانت عليه، إلا أنه أبدى قلقه عليها، وأشاد بثورة 25 يناير وشبابها وطالب الجميع بالتزام الهدوء، لإعادة بناء البلد.
وحول المواصفات التى سيختار على أساسها رئيس الجمهورية الجديد فى الانتخابات الرئاسية المقبلة قال إنه لابد أن تتوافر فيه صفتان أساسيتان هما الإخلاص والكفاءة.. وإلى نص الحوار:
■ ما رأى فضيلتك فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية؟
- الاستفتاء مرحلة جديدة طيبة فى مصر، وعدد المشاركين فيه يدل على وعى الشعب، فأنا مستبشر خيرًا لأن هذه الخطوة تدل على نبض الشعب، وأنه فى الطريق الصحيح، وأنه أدى فعلاً ما عليه من المشاركة الفعالة فى هذا الاستفتاء ولبى نداء الوطن.
■ ما سر عدم إعلان رأيك فى التعديلات الدستورية؟
- لا تزال الثقافة السائدة عندنا فى مصر تخلط بين الفتوى والرأى الشخصى، وأنا فى منصب الإفتاء لو تكلمت سيظن الناس أن هذه فتوى وأن هذا موقف شرعى، وبذلك يتدخل فى العملية الديمقراطية، التى نريد أن تسير فى مسارها بقواعدها الصحيحة، فأنا ضربت مثلاً أرجو أن يكون صالحاً فى أنى لا أتدخل فى رغبات الشعب، فى أن يقول نعم أو لا، لأنه لو خلط بين المفهوم السياسى، أو مفهوم الانتخابات، ومفهوم الرأى الشرعى، فأظن أن هذا تأثير غير حميد فى العملية الانتخابية.
■ هل قلت نعم أم لا؟
- أنا لا أزال أعتبر هذا الأمر سرًا حتى الآن حفاظاً على العملية الديمقراطية، لأننا سندخل فى سلسلة من الانتخابات فى المرحلة المقبلة، فنحن أمامنا انتخابات مجلس الشعب وانتخابات الشورى، ثم الجمعية التأسيسية والانتخابات الرئاسية، أمامنا خلال العام الجارى مجموعة كبيرة من الانتخابات، ونريد أن تعتاد الناس أن تقول آراءها بناء على مفاهيمها، وبناء على القاعدة التى يجب أن ندعو إليها.
■ ما تعليقك على بعض المطالبات بالتدخل لتعديل المادة الثانية من الدستور أو إلغائها؟
- الحقيقة أننى لا أرى أن هناك جدلاً جديًا حول هذه المادة حتى نخوض فيه، هذه المادة موجودة فى دستور 1923 فى المادة رقم 149 وفى دستور عام 1930 المادة رقم «138» وفى دستور 1956 فى المادة رقم 5 وفى دستور 1971 فى المادة رقم 2، إذن هذه المادة «فوق دستورية»، فإذن الشعب المصرى فى مسيرته عبر التاريخ وهذه المادة فى كينونته، لذلك لا أرى أنها محل للنقاش أو الجدل أو الأخذ والرد، لأن هذه المادة هى التى تحمى «المواطنة»، وتحافظ على حقوق غير المسلمين، وأرى أيضا أن أى نوع من أنواع الجدل حول الدستور ينبغى أن يكون فى ورش عمل، ثم تخرج بعد ذلك بصياغات دقيقة لمصلحة البلاد والعباد.
■ وما تقييمك لـ«ثورة 25 يناير»؟
- قلت أثناء الثورة يا أبناء الثورة أنتم قمتم بالثورة وفعلتم واجبكم وعليكم الهدوء حتى يتم البناء، وبعد ذلك اكتشفنا أن هذا الكلام كان لخصه الشيخ محمد متولى الشعراوى، فيما ذكره عن الثائر الحق بقوله «إن الثائر يثور من أجل هدم الفساد ثم يهدأ من أجل بناء الأمجاد»، قلت فى 30 يناير «أيها الشباب أنتم ستحكموننا وستأخذون بيدنا لمستقبل أفضل»، وهذا الكلام مسجل فهذا هو موقفى من الثورة.
■ لكن يتهم الكثيرون المؤسسة الدينية بأن موقفها من الثورة لم يكن على ما يرام؟
- قد يكون هناك خلط فى بعض المفاهيم لدينا بين دور المؤسسة الدينية من الناحية الدينية والدعوية وبين مفهوم النضال، فبعض الناس يريدون من المؤسسة الدينية أن تقوم بدور النضال وينزل شيوخها وقياداتها إلى الشارع ويهتفون ويرفعون اللافتات، وهذا لا يليق بمكانتهم ودورهم الدعوى، فهذا فى اعتقادى سبب هذا الفهم ولذلك يجب أن نغير هذا الاعتقاد.
■ هل طاعة الحاكم مطلقة فى الشريعة الإسلامية؟
- طاعة الحكام تكون فيما أطاع فيه الله تعالى، والنبى صلى الله عليه وسلم أوضح هذا فى قوله: (اسمعوا وأطيعوا)، لكن السمع والطاعة هو أنه يتقى الله سبحانه وتعالى فى المحكومين، وحينئذ يصبح السمع والطاعة مسألة إدارية، حتى نلتف جميعًا حول مصلحة الوطن.
■ متى يجوز الخروج على الحاكم؟
- الخروج على الحكام وضع فيه الإسلام ضوابط، وهذه الضوابط صعبة فى الفقه الإسلامى.
■ ما أبعاد هذه الصعوبة؟
- هناك مبادئ عليا، هذه المبادئ العليا إذا انتهكت مثل العدالة والإنصاف والمساواة وحقوق وكرامة الإنسان وعرضه، والمصالح العليا للوطن فى واقعه ومستقبله، أدت إلى فتنة ولذلك يحدث أن تذوب مع بعض هذه المبادئ، وتنسى يعنى تنسى قيمة العدل ولابد للعدل أن يكون حاسمًا وشفافًا وسريعًا وهكذا، والعدل أساس الملك، إذن هذه المبادئ العليا التى سنخالفها ونتركها هى التى ستؤدى فى النهاية إلى الفتنة، و«الفتنة» معناها أن تقع إراقة دم، وهذا الذى يجعلنا لا نخرج على الحكام بسهولة، فعندما يشيع هذا النوع من مخالفة المبادئ السامية، فهذا يعد فسادًا يجيز الخروج، ولذلك فالخروج على الحاكم قرار صعب وليس سهلاً.
■ لكن الخروج أيضًا على الحاكم قد يؤدى لحدوث فتنة؟
- نعم قد يحدث هذا، لكن «بعض الشر أهون من بعض»، فالفتنة المترتبة على الخروج على المبادئ السامية أشد من الفتنة التى هى الدماء.
■ فى نظرك.. من وراء الفتنة الطائفية التى حدثت مؤخراً؟
- نحن نريد أن نبنى مستقبلاً خاليًا من الفتنة، وهذا يحدث باتحاد القوى الوطنية كلها، ولذلك نريد فى هذا العصر الجديد أن تكون العلاقة جديدة، وأنا أعتقد أن علماء الدين الإسلامى والمسيحى سيقضون على هذه الفتنة تماما فى خلال لحظات، كما رأينا فى الأيام الماضية، وإن كانت هذه الفترة قد شهدت وقوع دم لكنها شهدت أيضًا نماذج من الاتفاق الذى يمكن أن ننطلق من خلاله.
■ هل تعرضت لضغوط بسبب فتوى رفض توريث الحكم فى مصر وعدم مشروعيته؟
- نعم تعرضت لضغوط خفية وليست ضغوطاً مباشرة.
.. وأنا لا أعرف بالضبط من يقف وراء هذه الحملة لتشويه صورتى، لكن قد يكون هذا جزءا من تداعيات وآثار الضغوط الخفية التى تعرضت لها.
■ هل تعرضت لضغوط معينة فى ظل النظام السابق لإصدار فتاوى محددة؟
- شخصياً لم أتعرض لأى ضغوط لإصدار فتوى معينة، سوى هذه الضغوط الخفية التى تعرضت لها بسبب فتوى رفض توريث الحكم فى مصر.
■ نجد بعض المطالبات حاليًا بضم دار الإفتاء ووزارة الأوقاف إلى مشيخة الأزهر.. ما تعليقك؟
- عبر التاريخ الممتد منذ 700 سنة لم يكن أبداً الإفتاء تابعًا للأزهر، وإنما كان هذا مؤسسة والآخر مؤسسة مستقلة، وهناك أساليب من أجل المواءمة بين الإفتاء والأوقاف، والجامعة والأزهر ولذلك نسميها عادة المؤسسة الدينية، كذلك عن طريق مجمع البحوث الإسلامية، فالمفتى دائمًا كان ولا يزال عضواً فى مجمع البحوث الإسلامية. المفتى فى بداية القرن العشرين فى القانون 1911 كان عضواً فى المجلس الأعلى للأزهر وحتى فى القانون 1890 كان عضواً أيضا فى المجلس الأعلى للأزهر، بعد ذلك فى القانون 103 لعام 1961 لم يصبح عضواً فى المجلس الأعلى للأزهر، وإنما ظل عضواً فى مجمع البحوث الإسلامية، وهذه المؤسسات من أجل المرونة، ومن أجل العمل ينبغى أن تكون مستقلة استقلالاً ما يؤدى إلى إحسان العمل ولا تتضخم المؤسسة الأزهرية بحيث يضيع العمل، والتنسيق يتم فى مجمع البحوث الإسلامية، الذى يرأسه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر.
■ هل تؤيد استقلال الأزهر عن الدولة؟
- أنا لا أفهم هذا الكلام، فشيخ الأزهر لا يزال يعيّن منذ توليه المشيخة على مدى 300 عام إلى الآن، إذا أردنا أن نخلق صيغة جديدة، فلابد أن نفكر فيها، يعنى أنا مش ضد الاختيار لأننا نجده أيضا فى نص القانون 103 الخاص بتنظيم العمل فى الأزهر الشريف، وكذلك القانون 1911 والقانون ،1936 كلها يختار شيخ الأزهر من هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية، وهذا نص القانون فمنذ بداية القرن العشرين وإلى الآن وعلى مدى 300 سنة، يختار شيخ الأزهر فعلاً، لكن قضية الانتخاب هل يُنتخب؟ فالانتخاب مبنى على فكرة النيابة، أما الاختيار فمبنى على فكرة التخصص، ففى المفاهيم الديمقراطية العميقة يخلطون ما بين الانتخاب والاختيار، فشيخ الأزهر وقاضى قضاة لندن وقاضى المحكمة العليا الأمريكية، يتم اختيارهم وليس انتخابهم، وهذا نظام تسير عليه الدول والأزهر ومصر منذ 300 سنة.
وإذا أردنا أن نطور ذلك أنا ما عنديش مانع، لكن بشرط أن يتم هذا التطوير بعد تفكير عميق وبعد مناقشة ومعرفة ما الذى سيؤول إليه، لأنها تجربة ليست لها سابقة، وكثير من الناس التى تدعو إلى هذه الدعوات يعتقدون أننا سنعود إلى تجربة سابقة، أبدًا لم تكن هناك تجربة سابقة، ولذلك أنا مع التجارب الجديدة، بشرط أن نفكر ونتصور ما الذى سيحدث إذا فعلنا هذه التجربة الجديدة حتى يكون ذلك فى مصلحة الأزهر، يعنى كل شىء لازم يدرس فلست مع من يقولون إن أى فكرة تطرأ ننفذها فوراً، ولست مع من لا يكون لديهم الوعى بأن هذه فكرة جديدة، كثير جدًا من الناس يعرضون ذلك على أنه فكرة قديمة، وأنهم يريدون العودة لانتخاب شيخ الأزهر مثلما كان فى الماضى، إلا أن شيخ الأزهر لم يتم اختياره أبداً بالانتخاب، كان بالاختيار والفرق بينهما واضح.
■ ما الشروط التى تختار على أساسها رئيس الجمهورية الجديد؟
- رئيس الجمهورية لابد أن يتوافر فيه شرطان مهمان، الأول الإخلاص وهذا يعرف من تاريخه، والشرط الثانى الكفاءة وهذا يعرف من تاريخه أيضا، فإذن أنا أختار رئيس الجمهورية بناء على هذين الشرطين: من هو أكثر إخلاصًا وحبًا لهذا الوطن ومن هو الأكثر كفاءة وقدرة على الأداء.
■ ما تعليق فضيلتك على ظهور التيارات الدينية المتشددة على الساحة من جديد وتخوف الكثير من الناس منها؟
- لدينا جانبان وليس جانبا واحدًا، الأول هو جانب حرية الرأى والتعبير الذى لا أستطيع معه أن أحرم أى تيار من أن يعبر عن نفسه، حتى لو كان متشددًا وحتى لو كنت أخالفه مائة بالمائة، لكن الجانب الآخر أنه يجب علينا جميعا أن نتكاتف فى إبداء آرائنا، نحن أيضا كمنهج وسطى ضد هذا المنهج المتشدد ورافض ليس لتعبيره ولا لإعلانه عن رأيه، بل رافض لمضمونه ولأن ينحاز الناس إليه، وهذه قضية رأى وتعبير أيضًا، فكما أتيحها إلى الغير لابد أن يتيحها الغير لى، فهذان الجانبان مهمان جدًا، فأنا لا أقول: نخرس الألسنة ولا أقول أن نكون ضد هذا التيار المتشدد فنمعنه من الظهور، لكن أيضا لا نسكت ولا نُسكّت، لابد أن تتاح لنا أيضًا فرصة متساوية من أجل أن نعرض المنهج الوسطى المعتدل، المنهج الحق، المنهج الموروث الذى يصحح صورة الإسلام ويصحح صورة العقل المسلم، فنحن نقبل بالتعددية لكن نرفض ديكتاتورية المتشددين.
■ نجد حاليًا عمليات بلطجة واعتداء على الآمنين.. ما عقوبة من يقوم بذلك فى الشريعة الإسلامية؟
- هذا فساد عريض فى الأرض، وعقوبته أقسى عقوبة ونجد ذلك فى سورة المائدة فى قوله تعالى «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم»، فعقوبة من يمارس البلطجة وترويع الآمنين متمثلة فى الفقه الإسلامى فى عقوبة «الحرابة»، فإذا أدى هذا الفساد إلى قتل تكون عقوبته القتل، وإذا أدى لسرقة تكون عقوبته بحسب جريمته.
■ نجد حاليًا الكثيرين يستغلون الظروف التى تمر بها الدولة ويقومون بالبناء على الأراضى الزراعية.. ما حكم الشرع فى هؤلاء؟
- هذا عدوان قبيح يدل على قلة دين ابتداء وقلة خلق فى الحقيقة، وقلة انتماء وطنى أساسًا.
■ ما رؤية فضيلتك لمستقبل الوطن بعد ثورة 25 يناير؟
- أنا عندى أمل كبير جدًا لأننى أحب هذا البلد حبًا حقيقيًا، لكن أنا قلق، والقلق مشروع كقلق الأب على ابنه، فأنا قلق على البلد قلقى على حبيبى، ولكن عندى أمل كبير جدًا فى تجاوز هذه الأزمة، تاريخ هذا البلد وكينونة شعب هذا البلد قادران على أن يتجاوز الشعب المحن وأن ينطلق، وهذا واضح فى كل المصريين الذين مُكّنوا فى الأرض، إذ أعطوا بسخاء.