قرر أن يكتب ما يراه، حتى نرى ما يكتبه.. باع «اللغو» الأدبى، والتصنيفات، والجمل المزهرة التى تطرح وروداً فى كل كلمة دونما إضافة للقصة. غرق فى بحور التفاصيل المتشابكة الخشنة خشونة حياة أصحابها، كأنه يحمل على كتفيه أمانة التعريف ببنى آدم نقابلهم كل يوم، ولا نعرف المادة الخام لتكويناتهم النفسية. عاش كل ما كتبه، ونقل، بلا احتفال، القاعدة العريضة من المصريين دون أن يدين أصحابها أو يدافع عنهم، فكتب الإنسان «كما هو».
نفذ عهداً، ربما لم يعلنه، بأن يصنع «كتالوج» الشعب المصرى خاصة سكان عشوائياته وعششه وحاراته ومقابره، الذين لم يهتم بهم أى مسؤول، بالرغم من أننا نتحدث عنهم طوال الوقت، قدم «دليل إرشاد» لحاكم قادم حتى يعرف رد فعل الفقراء والبسطاء تجاه أى قرار قبل أن يتخذه، فهم وقود الوطن وأغلبيته، وهم من اقتحموا أقسام البوليس، وواجهوا الأمن فى ثورة مصر الأولى الشتوية، فانتقلوا من مفعول به إلى فاعلين، هؤلاء هم أبطال رواياته التى سيقف عندها تاريخ الأدب العالمى.
ارتكب النقاد فى حقه جريمتين: الأولى عدم الكتابة عن إبداعه باعتباره «ليس أدباً»، والثانية عندما صنفوا إنتاجه بأنه «أدب المهمشين»، متغافلين عمداً الواقع الذى يقول بوضوح إن النخبة والمتعلمين والأثرياء وسكان الأحياء الراقية هم «الهامش»، وجسد مصر الأكبر يعيش فيه فقراء يتحايلون على الرزق يومياً.
كان كالباحث عن القصة بين الناس، لم يجلس فى غرفة مكيفة، ولم يبتدع طقوساً عاجية للكتابة، كان يرى ويتعايش ويكتب بلا توقف، فأنتج سبعين كتاباً، بين الرواية والقصة القصيرة والتحقيق والدراسة، وترك لنا شخصيات كان أميناً فى تعريفنا بهم، فتعرفنا عليه أكثر، شخصيات استضافنا فى جلساتها، وفتح لنا معها أبواب النقاش والاتهامات والحب والكره والتعاطف، فتوحدنا مع دعوات «أبوسماعين» فى «العراوى»، وصلابة وذكاء «فاطمة تعلبة» فى «الوتد»، ومباغتات «عزالدين خلاف» وقبح «ست الحسن» فى «فرعان من الصبار»، وخوف «صالح هيصه» الدائم فى «صالح هيصه»، وأوهام «مسعود القبانى» فى «وكالة عطية»، فمن يرد أن يتعرف على مصر الحقيقية، تكفه قراءة «حكاياته».
كان تلميذاً لكثيرين، لكنه عندما كتب، لم يقلد أياً منهم، بل اخترع أسلوبه الأقرب إلى «الحكى الشعبى» منه إلى الأدب المصفف الكلمات، فولد وعاش ومات وهو لا يشبه أحداً، لكن سيقلده كثيرون.
أربعون يوماً مرت على رحيل خيرى شلبى الذى أفنى عمره فى صناعة «كتالوج» الشعب المصرى كهدية مجانية لكل من يأتى ويحكم ويظن أن المصريين يعيشون فى الشوارع الواسعة المستقيمة فقط.