البعض يعتبر الصمت على ما يجرى تجاه الأقلية المسلمة فى بورما على أيدى الأغلبية البوذية عاراً عربياً، البعض الآخر يعتبره عاراً إسلامياً يخص الدول الإسلامية ككل، ربما معهم حق، هؤلاء وأولئك، ذلك أن الصراع الدولى عموماً كما هو واضح أصبح طائفياً دينياً بالدرجة الأولى، حتى لو كان بين أصحاب الديانة الواحدة، فقد ينتفض المجتمع الغربى حال الاعتداء على كنيسة فى دول العالم الإسلامى، وقد تنتفض المنظمات الدولية والحقوقية من أقصى العالم إلى أقصاه حال الحديث عن تمييز من أى نوع تجاه طائفة مسيحية، إلا أن الأمر يختلف تماماً حينما يتعلق الأمر بأقلية مسلمة فى أى من البقاع، من أفريقيا الوسطى حتى بورما، ومن زنجبار حتى كشمير، ما جعل البعض يعتقد أن أصحاب كل ديانة أولى بالدفاع عن ذويهم، أو على الأقل هم المعنيون بطرح قضيتهم!!
بالتأكيد هى نظرة تعود بنا إلى العصور الوسطى أو ما قبل ذلك، هى الهمجية فى أبشع صورها، هى دليل قاطع على أن شعوب العالم لا تشعر ولا ترى حتى الآن بأن هناك تقدماً أو تحضراً طرأ على هذا المجال المتعلق بحقوق الإنسان ككل، حقوق الإنسان فى العقيدة، حقوقه فى التدين، حقوقه فى التعبير، حقوقه فى ممارسة الشعائر، لذا كان التعصب للدين، التعصب للأيديولوجيا، التعصب للعرقية، التعصب للغة، وهو ما أفرز ذلك التطرف والإرهاب الحاصل الآن، والذى لم يعد يستثنى أقطاراً بعينها، ما جعل الجميع فى حالة تأهب واستنفار دائمين.
ما يجرى فى بورما تجاه مسلمى الروهينجا، بحرقهم أو تقطيعهم أو دفنهم أحياء، أكبر دليل على أن العالم فى القرن الحادى والعشرين مازال يعيش حالة من التخلف والتعصب الدينى والعرقى منقطعة النظير، ذلك أن صمت المجتمع الدولى إلا ما ندر، سواء كانت عواصم أو منظمات، هو بمثابة عار سوف يظل يلاحق هذه المرحلة من التاريخ، مهما كانت سرعة التقدم العلمى، ذلك أن العقل البشرى مازال متخلفاً فى الجانب الأهم، وهو المتعلق بالمساواة بين الناس وتحقيق العدالة، رغم أنها كانت القضية الأولى للكتب السماوية قبل آلاف السنين، والتى من أجلها كانت مهمة الرسل والأنبياء بالدرجة الأولى بعد عبادة الله الواحد الأحد.
قد تكون المذابح الحالية بشأن المسلمين فى بورما والمستمرة منذ عام ٢٠١٢ ليست الأولى من نوعها هناك، ذلك أن الإسلام دخل إقليم أراكان هناك منذ القرن السابع الميلادى، وأصبحت أراكان دولة مسلمة، إلى أن قام باحتلالها الملك البوذى البورمى (بوداباى) فى عام ١٧٨٤ ميلادية، وقام بضم الإقليم إلى بورما خشية استمرار انتشار الإسلام فى المنطقة، ثم قام بعد ذلك بتدمير الآثار الإسلامية من مساجد ومدارس، كما قتل الكثير من العلماء والدعاة، ثم تعرض المسلمون هناك منذ ذلك التاريخ لعمليات اضطهاد وتشريد وطرد، كان أبرزها فى القرن العشرين، أعوام ١٩٤٢ و١٩٦٢ و١٩٩١، وتم طرد نحو مليون ونصف المليون شخص إلى بنجلاديش المجاورة وحدها، إضافة إلى مخيمات أخرى تضم مئات الآلاف فى الصين والهند وتايلاند وماليزيا وإندونيسيا فى ظروف لا إنسانية بالغة القسوة، وبعد أن كانت الأرقام تتحدث عن نسبة ١٥٪ من بين سكان بورما، البالغ تعدادها ٥١ مليون نسمة، مسلمين، أى ما يوازى ٧٫٥ مليون نسمة، جاءت الإحصاءات الرسمية الصادرة هناك العام الماضى تقول إن تعداد المسلمين طبقاً لتعداد ٢٠١٤ لا يتعدى ٢٫٣٪ فقط، بما يقدر بمليون و١٤٧ ألف نسمة!!
الغريب فى الأمر هو أننا لسنا بصدد مواجهات عرقية أو دينية بين فئات متناحرة، نحن أمام حملة إبادة جماعية ممنهجة ومنظمة تقوم بها دولة عضو فى الأمم المتحدة وفى المنظمات الإقليمية والدولية عموماً، بمباركة ودعم رئيسة الوزراء هناك، أونج سان سو تشى، الحاصلة للأسف على جائزة نوبل للسلام، كما منحها مجلس الشيوخ الأمريكى بالإجماع ميدالية الكونجرس الذهبية، وهى أرفع تكريم مدنى فى الولايات المتحدة، وهو ما يجعلنا لا نستطيع النظر إلى ما يجرى فى بورما بمعزل عن مخطط إعادة صياغة العالم ككل.
وباستثناء زيارة قام بها الرئيس التركى رجب طيب أردوغان إلى بورما فى إطار الدعم ومحاولة وضع حد لما يجرى، لم نر أى تحرك دولى من أى نوع لوقف هذه المذابح، فى الوقت الذى يجرى فيه تشويه صورة الإسلام والمسلمين فى أنحاء العالم بصورة غير مسبوقة، وبمساعدة أقلام عربية وساسة عرب، وأيضاً أموال عربية فى معظم الأحيان.
بالفعل، نحن أمام عار عربى بالدرجة الأولى، لاشك أبداً فى ذلك، بعد أن تفرغ العرب لحصار بعضهم بعضاً، ولقتال بعضهم بعضا، ولسداد إتاوات هنا وإنفاق على تسلح هناك، إلا أن العار الدولى سوف يظل الأصل فى مثل هذه القضايا، التى لا يسلم منها بمرور الوقت من يعتقدون أنهم بمنأى عنها، وما كل عمليات الإرهاب التى يعانى منها العالم إلا نتيجة حتمية لقصور وغباء متلازمين، كما أن الصور والفيديوهات القادمة من بورما فيما يتعلق بالإبادة الجماعية سوف تظل بمثابة وثائق قاطعة تؤكد مدى التعصب الدينى لدى الغرب، وحتى وإن بدا منه غير ذلك، وهى الوثائق التى فشل الإعلام الرسمى فى إبرازها، أو بمعنى أكثر دقة تعمّد الإعلام العالمى تجاهلها فى إطار استكمال كل جوانب الجريمة.