للمشايخ وعلماء الدين صورة نمطية فى بلادنا تتعدد جوانبها من شخص لآخر، فالبعض يراهم على الصورة القديمة ذاتها التى ظهر بها الفنان حسن البارودى فى فيلم «الزوجة الثانية»، الذى كان لا ينفك يبرر لعمدة القرية إفكه وجرمه بالآية الكريمة «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، وآخرون يرونهم مجرد جزء من آليات النظام ومؤسساته التى تحاول الإمساك دوما بالعصا من المنتصف، فلا تقول لكبير إنه مخطئ ولا تؤيد صغيراً فى مطالبه. وغالبية تعدهم رموز الدين ومانحى الفتوى ومالكى مفاتيح الصبر على البلاء. لكن الحديث مع الشيخ جمال قطب، العالم الأزهرى، يمنحك صورة جديدة لهؤلاء الشيوخ بتنا نفتقدها. فالرجل يتحدث بلغة الإسلام الكونى الذى يسع العالم دنيا وديناً.. يحاورك فى الدستور ورفض التعديل الذى يصفه بـ«الترقيع»، يخاطب المجلس الأعلى العسكرى مطالبا إياه بعدم التسرع فى تسليم السلطة قبل القضاء على قاعدة نظام سقط لكنه متغلغل فى قرى ونجوع الوطن.. يصف المؤسسة الدينية للمسلمين فى مصر بأنها «عاجزة»، ويقول عن المؤسسة المسيحية إنها متجاوزة..
■شاركت فى مظاهرات التحرير وتتحدث عن الدستور وتجديده لكن هناك من يقول مال الشيوخ وعالم السياسة.. ما رأيك فى هذا؟
- هذه مقولة أطلقها العلمانيون، وأفرط فى الدعوة لها المستفيدون من تغييب الدين. وقد كان فى كوادر النظام السابق أشخاص بدرجة «كاهن»، وآخرون بدرجة «ترزى»، وكلاهما اتفق على تجفيف منابع الأخلاق والتدين وكانوا يصوغون رؤيتهم فى كلمة واحدة أخافت الناس من عموم الدين على غير حق، ألا وهى «التطرف».
■لكن حديث رجال الدين فى السياسة ارتبط بفريقين، إما «متطرف» لا يرى من الدين غير العنف كالقاعدة، أو «مُسيّس» يسير على هوى الحكام كالمؤسسة الدينية الرسمية؟
- الاثنان نتاج سياسة اضطهاد المؤسسة الدينية وتمزيقها، ودليلى أن التاريخ يذكر أن حملة نابليون انتهت على أبواب الأزهر ورغم ذلك لم يمارسوا السياسة لأن لهم عملهم الدعوى وتركوا الحكم لمحمد على. ولكن بعد ثورة يوليو 1952 تم التخطيط لتهميش الأزهر خوفا من نفوذ علمائه فى الشارع، وجعلوه مؤسسة متقوقعة على ذاتها لا شأن لها فى شىء إلا إرسال برقيات التهنئة للرئيس، أو حضور المناسبات العامة، وبات المفتى جاهزاً لإجابة أى طلب فى المطبخ الرئاسى يُطلب منه، ولا يهمه أن تُقتطع الفتوى من مضمونها وسياقها مادامت تخدم الحاكم، واقتصرت فتاواه فى الشأن العام على قضايا الدماء والقتل التى تعرضها وزارة العدل، على الرغم من أن الأزهر كان له رأيه فى قضايا مصيرية أكبر من ذلك فيما مضى.
■خرجت تصريحات رجال الدين فى ثورة 25 يناير تؤكد حُرمانية التجمهر وتعطيل المصالح، ما رأيك؟
- أتفق مع هذا الرأى مائة فى المائة. وأضرب مثالا بأن المشايخ طلبوا من المفتى رأيه فى قضية تصدير الغاز لإسرائيل فلم يجد سوى القول إنه سيرجع للمتخصصين، ولم يجرؤ على الإفتاء بحرمانية ذلك حتى يومنا هذا. المحكمة قالت حكمها بالرفض التام، وفضيلته لايزال يبحث عن المتخصصين، وكذلك شيخ الأزهر الذى نصح المتظاهرين قبل تنحى مبارك بثلاث ساعات بالعودة للبيوت، وهذه الأيام يطالبهم بالخروج على القذافى. ما هذا العجب «هوّ حرام على أهل مصر وحلال على أهل ليبيا؟»
■المسؤولون فى المؤسسة العسكرية يقولون إن الجيش لا يستطيع مواصلة الحكم لفترة طويلة؟
- هذا تخلٍّ عن المسؤولية وإلقاء بالكرة فى يد فريق لا نعلمه، خاصة أن أخطر ما فعله نظام مبارك السابق هو إبادة البنية التى تخرج منها القيادات كانتخابات الجامعات والنقابات المهنية والمحليات المحترمة، ولذا يجب إعطاء الفرصة للمصريين لتوحيد صفوفهم وتنظيمها ليحسنوا الاختيار ولكيلا يضيع ما فعله هذا الشباب هدراً.
■البعض يرى أن هناك تعارضاً بين الدين والسياسة وأنه يجب الفصل بينهما.. كيف ترى ذلك؟
- الدين والسياسة لا يتعارضان. السياسة أسلوب معيشة والمؤسسة الدينية تمارس الفكر دون أن تمارس السياسة، والأزهر رمز المؤسسة السنية فى العالم كله ولتحقيق نقلة فى فكره يجب أن يكون شيخ الأزهر بالانتخاب لا بالتعيين، وانتخاب شيخ الأزهر يعنى انتخاب مؤسسة كاملة، مع دمج المؤسسة الدينية بدلا من تشتتها.
■أوروبا لم تتقدم إلا بعد فصل الدين عن الدولة.. فهل يمكن فعل ذلك فى مصر؟
- أوروبا لم تتقدم إلا بعد فصل الدولة عن الكنيسة التى احتكرت صكوك الغفران، وكان رجال الدين يديرون الحياة بمنطق الإيمان والكفر: من يوافقها مؤمن ومن يخالفها كافر. وهنا فى مصر نحتاج لفصل المؤسسة الدينية عن السلطة فلا تُسيَّس ولا يكون لها ولاء لأى جهة سياسية.
■ماذا تعنى بتشتيت المؤسسة الدينية؟
- هناك ثلاثة أقسام فى المؤسسة الدينية، أولها مشيخة الأزهر ومعاهدها وفروعها، ورغم ضعفها إلا أن أهم ما يميزها - طبقا للقانون - أنها لا تتبع المحليات ولكن تتبع شيخ الأزهر. القسم الثانى هو دار الإفتاء، والفتوى تعنى إيجاد حل لقضية أو أزمة، فالفتوى ليست حكماً شرعياً، الحكم الشرعى فرضه الله لكن الفتوى حل لقضية أو مخرج أو حكم جديد لحالة خاصة، ويجب أن تكون تلك الدار تابعة للأزهر ويكون القائم عليها بلا هوية سياسية أو طائفية، حتى لا نرى أو نسمع تلك الكوارث التى بتنا نراها. هل يُعقل أن يفتى المفتى قبل جمعة الغضب بأن من خاف على نفسه من الخروج لصلاة الجمعة فلا يخرج من بيته، لماذا؟ ليمنع الناس من التظاهر ضد النظام، ويكون الجالسون فى البيوت مؤيدين له، وهو ما أجبرنى على الاتصال بالمشايخ وقلت لهم «من مات فى بيته اليوم مات (فطيس)، هؤلاء الشباب يجب مساندتهم». ثم تسمع المفتى يقول إنه قال ذلك حقناً للدماء! إذن أين الجهاد بكلمة الحق يا مولانا؟ ولذا يجب أن تعود دار الفتوى للأزهر. القسم الثالث هو وزارة الأوقاف، والوقف يعنى «مال خرج من ملك صاحبه لملك الله، لا يحكم فيه سوى القاضى ولا يجوز أن يُسيس أو تكون هيئة سياسية مسؤولة عنه»، وتكون مسؤولة عنه هيئة مستقلة من المشايخ، والحكم بينهم وبين الناس إن أخطأوا هم القضاة. ولكن ما حدث أن الأوقاف صار لها وزارة بات المشايخ موظفين فيها ويرأسهم لواءات وإداريون، وباتت وزارة الأوقاف ديواناً مليئاً بالفساد فى ظل وزير ترك كل الفساد فى وزارته وانشغل بقضايا النقاب والختان لإرضاء حرم الرئيس وحزبها الوطنى ومجلس المرأة الذى لم يرتق بالمرأة منذ مجيئه.
■لكننا عانينا سنوات من ضعف مستوى خطباء المساجد والزوايا من الأزهريين فكيف كان من الممكن التحكم فى ذلك؟
- السبب وزارة الأوقاف ومباحث أمن الدولة، فلم يكن يرضيهما وجود مشايخ يقولون الحق، فجنّباهم واقتصر الخطباء على خريجى معاهد الدعاة، وتُرك خريجو المعاهد الشرعية الذين باتوا عاطلين عن العمل وكأن ذنبهم أنهم التحقوا بتلك المعاهد.
■نعم ولكن مستوى خريج المعاهد الأزهرية لا يرقى لمستوى خطيب إسلامى مثقف؟
- هذا صحيح وأنا غير راضٍ عن مستوى الخريجين، لكن لا يمكن علاج تدنى مستوى طلاب المعاهد الأزهرية بتجاهلهم وإنشاء معاهد للدعاة، بل بالارتقاء بمستواهم عبر تطوير المناهج داخل المعاهد الأزهرية لتخريج خطباء عارفين بأمور دينهم وسبل توصيلها لأهلها، مع الإلمام بالواقع السياسى والاجتماعى المحيط بهم.
■كيف يحدث الاستقلال الدينى للمؤسسة الدينية؟
- بعودة مسؤولية الأوقاف والتبرعات والهبات لها، لتكون منبع الإنفاق على المشايخ ولكى لا يكون لهم انتماء لحزب أو مؤسسة سياسية.. يكون لهم رأيهم ولكن بلا انتماء سياسى أو مذهبى، لقد كان الأزهر ينفق على نفسه لمدة 900 سنة.
■ماذا عن الدرجات الوظيفية التى تُمنح لشيخ الأزهر الذى يعين على درجة رئيس وزراء، والمفتى الذى يعين بدرجة وزير.. كيف يؤثر ذلك على تلك المناصب؟
- يجعلها أكثر قرباً للفساد وعلى رأس متساو مع مسؤولين لا يقولون ولا يفعلون الحق. قبل ثورة يوليو كان شيخ الأزهر يخيف الملك ويُغضب الاستعمار وقد يقيل وزارة فاسدة، وكان على درجة مدير عام، لكن بعد الثورة 1961 بات شيخ الأزهر رمزاً غير فاعل، وباتت قراراته لا تسرى إلا بعد موافقة وزير الأوقاف. وعندما ضج الشيخ عبدالحليم محمود عدلوا الأمر وبات المسؤول عن قرارات شيخ الأزهر رئيس الوزراء، وبات الشيخ على درجة رئيس وزارة من باب المجاملة، لكن ضاعت المكانة الحقيقية للمنصب، وبات يُعامل كموظف تابع للحكومة. وأنا أتساءل: هل يُعقل أن يكون للكنيسة الاستقلال فى انتخاب مجمعها المقدس ويكون شيخ الأزهر بالتعيين، ويكون نفى الخطيب بقرار سياسى؟ أتمنى أن يتم مساواة المشايخ بالقساوسة فى الانتخاب.
■إلى أين تسير بوصلة الحياة والسياسة فى مصر اليوم؟
- كمواطن مصرى مارس السياسة 5 سنوات عبر عضويتى كمستقل فى مجلس الشعب فى انتخابات 1990-1995، أرى أن نوافذ فُتحت للحرية ولكن الكتائب التى ستخرج من تلك النوافذ لم تُعد بعد. وهنا لى ملاحظتان، الأولى أننى أرى حالة من الحساسية المفرطة وغير المبررة من القوات المسلحة التى تريد سرعة العودة لثكناتها، وسبب رفضى تلك السرعة أن التركة التى حُملوا بها لا يكفى لإصلاحها ستة أشهر، فى الوقت الذى نعانى فيه حاليا من قلة منابع الاختيار لمن يستطيع قيادة المرحلة المقبلة.. . فى ذات الوقت لست مع مطالب شبابنا بتكوين مجلس رئاسى يُمثل فيه المجلس العسكرى مع المدنيين، لأنه لن يستطيع إرضاء المدنيين لاختلاف الفكر والأسلوب فى العمل، لذا أطلب من القوات المسلحة التروى لأن الشباب قال نريد إسقاط النظام فهل سقط النظام؟ لا لم يسقط؟
■فى رأيك كيف يبدأ الإصلاح؟
- على الدولة استرداد مبانى الحزب الوطنى لأنها ملك الشعب منذ سنوات، الأمر الثانى أن يصدر قرار بحل جميع المجالس الشعبية والمحلية لأنها بؤر فساد لا يمكن تطهيرها أو إصلاحها بل بناؤها من جديد، ونضع دستوراً جديداً، بدلا من تعديله للمرة الرابعة وترقيعه برقع غير مقبولة.
■ما رأيك فى المادة الثانية من الدستور؟
- هى جزء من العبث السياسى الذى أسسه رئيس مصر أنور السادات ليضحك على المواطنين من ناحية ويشغل المؤسسة الدينية من ناحية أخرى. فالمادة تقول «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، والشريعة الإسلامية مصدر التشريع». هذا نص به قصور، ولكى يطمئن الآخر أقترح إضافة تلك العبارة للمادة الثانية تنص على: «يحمى الدستور حق مواطنى الملل السماوية فى ممارسة شؤونهم الشعائرية والأسرية طبقا لشرائعهم التى يرتضونها». ونضيف مادة جديدة للدستور نسميها «الشؤون الروحية»، وتُدعى الطوائف المسيحية واليهودية لصياغة مقترحاتهم حول النصوص، وقد وضعت نص تلك المادة.