ليس مهما فقط أن يكون الدواء قويا وفاعلا، وإنما أن يكون جسد المريض مستجيبا له، فمهما كانت التجربة قاطعة فى علاج المجتمعات، فإنها فى الواقع قد تعطى نتائج مختلفة، أو يكون رد الفعل عكسيا نتيجة عوامل وظروف لا نراها أو نستطيع التنبؤ بها. ما حدث لدينا عندما جاءت الشجاعة فى اتخاذ القرار الخاص بتعويم الجنيه المصرى، وما سبقه ولحقه من الرفع التدريجى للدعم، وما اتخذ من سياسات اقتصادية أخرى، فإن الجسد الاقتصادى المصرى استجاب، وبدرجة لا بأس بها من العنفوان. المؤشرات الكلية للاقتصاد كلها تشير بعد أقل من عام فى تطبيق السياسات إلى نجاح ما جرى اتخاذه من قرارات، فالعجز فى الميزان التجارى انخفض، والاحتياطى من العملات الأجنبية ارتفع نتيجة تزايد الثقة فى الاقتصاد المصرى لدى المؤسسات المالية الدولية، وكذلك الدول العربية المانحة للمساعدات، وتوقعات معدل النمو للاقتصاد المصرى باتت أكثر تفاؤلا ووصل التفاؤل إلى 5% هذا العام بعد أن كانت الأمانى متوقفة عند 4.6%، ورغم الإرهاب فإن السياحة ارتفعت بدرجة ملموسة عما كان عليه الحال فى العام الماضى، وكذلك ارتفعت تحويلات المصريين فى الخارج ومعها حجم الاستثمارات الأجنبية، وحتى الجنيه المصرى الذى تهاوت قيمته بدأ يسترد بعضا من عافيته ببطء شديد، وكذلك الحال مع معدل البطالة.
كل ذلك، وهناك ما هو أكثر من الأنباء الطيبة، لا يعنى أن الأوضاع وردية أو أننا خرجنا من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فهناك ارتفاع مروع فى معدل التضخم، كما أن تحسن الصحة العامة للاقتصاد الكلى لا يعنى أن أحوال الإنسان المصرى والأسرة المصرية بخير. ما يعنيه كل ذلك هو أن العلاج الإصلاحى له نتائج إيجابية، وأن كل التنبؤات السلبية عن الاقتصاد والتى صلت إلى حد الانهيار لم تتحقق، وأكثر من ذلك أن المصريين عرفوا كيف يتكيفون مع واقع صعب. هى شهادة واقعية على أن الرشادة الاقتصادية باتت مطلوبة للدولة كلها، وأن بقية الحزمة فى السياسات الإصلاحية من أول قانون الاستثمار، وحتى قانون الإدارة المحلية، يمكنها بقدر غير قليل من اليقين أن تضاعف من القدرات الاقتصادية المصرية.
وإذا كان لكل ذلك من نتيجة مؤسفة فهو أننا تأخرنا كثيرا فى اتخاذ إجراءات لم يكن هناك بد من اتخاذها، وعلى العكس فإننا سرنا فى الاتجاه المعاكس لما سارت فيه دول كثيرة سبقتنا الآن بفراسخ وأميال. جذور التأخير ربما تعود إلى الفترة الناصرية وسياستها الاشتراكية واتباعها لسياسات خارجية قادتنا إلى حرب فى اليمن وهزيمة يونيو 1967، ولكن العالم آنذاك كان معظمه على شاكلتنا يطالب الدولة بالتدخل فى الاقتصاد والمجتمع إلا من نجى من العقائد اليسارية المتعددة. ومن الجائز أن أحداث عرفت بأيام 17 و18 يناير 1977 أجهضت مشروع الرئيس السادات الإصلاحى وانتهى إلى حالة من الشلل الاقتصادى فى البلاد لعقد ونصف من الزمان بعد ذلك. ومن المدهش أن المؤتمر الاقتصادى الذى عقد فى بداية عهد الرئيس السابق مبارك لم تكن توصياته تزيد كثيرا عما كان قائما آنذاك بل إنها كانت تعمقه فقاد إلى بطء النمو، وزيادة البطالة، وسبعة أسعار للعملة المصرية مقابل الدولار، ومعها شركات توظيف الأموال التى كادت أن تودى ليس فقط بالنظام المصرفى المصرى وإنما بالاقتصاد المصرى كله.
بداية الإصلاح كانت بعد حرب تحرير الكويت، والدور المشهود الذى قامت به مصر سياسيا وعسكريا فكانت المكافأة تخفيض الديون المصرية إلى النصف، ومساعدة مصر لكى تطبق أول برنامج للإصلاح الاقتصادى الجاد فى عهد وزارة الدكتور عاطف صدقى. النتيجة كانت انتعاشا اقتصاديا ودخول مصر مرحلة من اتباع بعض من الرشادة الاقتصادية إلا أنه بمجرد الخروج من الأزمة الاقتصادية فإن «ريما» كما هى العادة رجعت لعادتها القديمة من أول المزيد من تدخل الدولة فى الاقتصاد، وحتى التوسع فى الاقتصاد العام والمغامرة بأسعار متعددة للعملة فكان الركود الاقتصادى مرة أخرى مع السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين. كان الأمر أشبه بمسيرة «زجزاجية» تصعد أحيانا فى مسار الإصلاح الاقتصادى، وتهبط أحيانا أكثر فى اتجاه ما هو معتاد، والخوف المزمن من تكرار أحداث جرت قبل ربع قرن. وحتى بعد أن دخل الاقتصاد مرحلة أخرى من الإصلاح والرشد والنمو الاقتصادى قبيل عهد الثورات، فإن التردد والتلعثم فى أن تصل المسيرة إلى غاياتها التى وصلت إليها الدول الأخرى ظل سائدا ومسيطرا. وبعد الثورة الأولى لم يرد على الخاطر القومى لا خطة ولا برنامج للإصلاح الاقتصادى، ولم يكن لدى جماعة الإخوان شىء يقدمونه للاقتصاد المصرى أكثر من سلاسل السوبر ماركت.
ويقال فى المثل الشائع إنه من الأفضل للإنسان أن يأتى متأخرا بدلا من ألا يأتى على الإطلاق، والجهة المقصودة هى ذات الجهة التى ذهبت لها دول كانت فى صف واحد معنا مع ستينيات القرن الماضى والآن فإن الفارق بيننا وبينها يظهر فى كل معدلات النمو ومستويات المعيشة والتعليم والصحة والنضج التكنولوجى فى اللحاق بثورات علمية وصناعية عديدة. التفاصيل كلها معروفة الآن وربما كان وضوحها ناجما عن إدراكنا أنه لم يعد لدينا أولا وقت نضيعه: وثانيا أنه لكل إصلاح ثمن لابد من دفعه وأن لدينا من الشجاعة ما يكفى للنجاح فيه.