x

عبد المنعم سعيد الفتنة ومن أيقظها؟! عبد المنعم سعيد السبت 19-08-2017 21:05


لا تنزعج. الحديث عن الفتنة ومن أيقظها، وهو عن الولايات المتحدة ودونالد ترامب رئيسها. أى مشابهة مع وقائع فى واقعنا من المؤكد أنها غير مقصودة، وإذا حدثت فإنها من قبيل المصادفة البحتة ولا تعبر عن أى نوع من سوء النية. والمسألة أننا نتحدث فى «السياسة» وهذه فيها مجال كبير للمناطق الرمادية، وفى أحيان فإن سلامة الطوية تختلط بالحماقة التى يقول المثل إنها «أعيت من يداويها». وهى تظهر عادة عندما تكون الأمور تسير سيرتها الطيبة أو المعتادة، ثم تجد فجأة من يقلب الموائد بتصرف أو قول أو دعوة تعيد تقليب المواجع والآلام، وتدفع بالعواطف إلى مناطق الفورة والثورة والانتقام والعنف المضاد. هى أمور كان ممكنا تجنبها لولا المغالاة والتطرف التى تصل إلى تحدى أطراف كانت على الهامش فتجد نفسها فجأة فى قلب الأحداث.

الحكاية لا يعرف أحد متى بدأت على وجه التحديد، ومن الجائز أنها تعود إلى الحرب الأهلية الأمريكية (١٨٦٠- ١٨٦٥) التى دارت حول موضوعين: الاتحاد الأمريكى الممثل فى الولايات المتحدة وعما إذا كان قابلا للانقسام على أساس كونفيدرالى، وتحرير العبيد. الموضوعان متداخلان لأن الولايات التى تريد استمرار «العبودية» رأت أنها لا تستطيع الاستمرار فى اتحاد يطالب بتحرير العبيد. انتهت الحرب بانتصار الشمال الاتحادى، وهزيمة الجنوب الكونفيدرالى، وتم عتق العبيد، وبعد أسبوع من نهاية الحرب جرى اغتيال إبراهام لينكولن. ملخص الحرب كان قدرا هائلا من الآلام والمرارة والخوف، ولكن الحكمة التى تُعلمت من الحرب أتت بصيغة للعيش تحافظ على الاتحاد وتدعمه بكم هائل من الغفران، وإذا كان العبيد قد جرى تحريرهم فقد صاروا مواطنين من الدرجة الثانية. وبعد قرن من الزمان جرت حركة التحرر المدنى بقيادة مارتن لوثر كينج، وتقدم الأمريكيون من أصول أفريقية فى السلم الاقتصادى والاجتماعى حتى وصل واحد منهم- باراك أوباما- إلى البيت الأبيض رئيسا للدولة بكل ألوانها.

يومها ربما انتهت الحرب الأهلية الأمريكية، ولكن الأرجح أنها ربما بدأت من جديد، فلم تمض ثمانى سنوات حتى انتخب الأمريكيون دونالد ترامب معبرا عن توجه محافظ جديد كتبت عنه سابقا فى هذا المقام وهو «القومية البيضاء»، فلم يكن ترامب يتحدث عن «أمريكا أولا» وإنما عن «أمريكا البيضاء أولا». وأثناء الحملة الانتخابية حصل ترامب على تأييد المنظمات التابعة لها، بعضها نازى، وبعضها الآخر فاشى يتحدث عن تفوق البيض العرقى، وبعضها الثالث شهير باسم الكلوكلوكس كلان، وهو تنظيم وُلد فى أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية لقتل وتعقب وحرق السود. وطوال القرن الماضى بدا كما لو أن المجتمع الأمريكى قد تغير، تغير وضع المرأة، والسود، والأقليات فى عمومها حتى المثليين، ولكن ما بدا لم يكن صحيحا فقد كانت هناك الكثير من النار تحت الرماد.

كانت الحرب الأهلية الأمريكية لم تنته بعد ليس لأن ولايات الجنوب لاتزال تصر على الانفصال، وإنما لأن الليبراليين الأمريكيين لم يكتفوا بما حققوه من انتصارات، وإنما لأنهم أصروا على إزالة كل الآثار الباقية من لحظات الانفصال مثل العلم الكونفيدرالى، وتماثيل القائد العسكرى للجنوب جنرال «روبرت لى»، وبعض من الرموز الأخرى التى تزين الميادين وبوابات المحاكم وأسماء الشوارع. استمر الضغط فى المحاكم ومن خلال المظاهرات فى الشوارع والتهكم والتشهير فى أجهزة الإعلام لإزالة ما مات الجنوبيون البيض من أجله ذات يوم فى حرب ضروس. المدهش أن انتخاب ترامب لم يكف كرسالة أن السيل قد بلغ الزبى وأن القلوب بلغت الحناجر. فى مدينة بلتمور كان الليبراليون، سودا وبيضا، يريدون إزالة تمثال الجنرال «لى»، وفى شارلوتسفيل بولاية فرجينيا خرج البيض فى مظاهرات تضم كل العنصريين بأعلامهم وبيارقهم،

فخرجت لهم مظاهرات مضادة من الليبراليين سودا وبيضا، وانتهى الأمر بالمواجهة، خرجت عن التقاليد «الليبرالية» فقام أحدهم بقيادة سيارة لكى يخوض بها فى لحم المعسكر المضاد، ماتت سيدة، وجُرح عشرات. وصلت تقاليد الإرهاب «الداعشى» إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكى تعيد ذكريات الحرب الأهلية.

طوال السنوات الماضية تلقينا دروسا كثيرة من الولايات المتحدة والليبراليين الأمريكيين حول تغلغل الروح القبلية والعنصرية لدى العرب والمسلمين، وكيف أنها تقود إلى العنف والمواجهة والغلو. ولكن أحدا لم يدل لنا بكثير من الحكمة السياسية التى تعلمك كيف تحافظ على الاستقرار والوحدة فى المجتمع والدولة حتى ولو لم تكن المثاليات كاملة، وكيف تقدر رموزا وما هو عزيز وغال على أطراف أخرى شريكة فى الوطن. الحقيقة هى أنه كما فشلت السياسة لدى دول فى منطقتنا، فإنها الآن تفشل فى الولايات المتحدة. المسؤولية الأولى للسياسة هى الحفاظ على الدولة والمجتمع، ولا يتحقق هذا الهدف بالحماقة التى لا تعرف لا تقدير الموقف، ولا تقدير أوزان الموضوعات والقضايا، وأولويات العمل فى لحظة بعينها، ولا الاختيار بين ما يثبت الدولة، وما يهددها ويدخلها فى دروب ظلمات من دخلها هلك، ومن تجنبها فاز.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية