أجرى حواراً مع وزير ثقافة مصر، وكان قبل ذلك صحفياً يتقن أصول اللعبة، يعرف الفرق بين السؤال البرىء والسؤال الفخ، يجيد التنشين على أهداف الدولة ومنجزاتها، ويختار إجابة تقليدية حين يغلبه السؤال، يفهم السؤال المعلومة والسؤال الباحث عن المعلومة، يهرب بذكاء من الطلقات المصوبة إليه عند الضرورة وربما يردها إلىَّ، وأنا لا أستسيغ حواراً بلا مخالب، فالمخالب ليست أظافر المحاور ولا صوته العالى ولا رغبة خبيثة للإيقاع بالمصدر، المخالب مهنية واختراق بعلامة الاستفهام، وعندما أذهب لأحاور شخصية عامة، أصحب معى مخالبى، باختصار «الصحفى حلمى النمنم» فى خدمة «الوزير حلمى النمنم».
النقط فوق الحروف!
قلت للوزير: تعال نضع النقط فوق الحروف ولا أعرف مفهوم العبارة عندك.
قال: إنها عندى تعنى الدقة والتحديد والتعيين والوضوح الشديد.
سألته: بوضوح شديد: هل نضع النقط فوق الحروف فى حياتنا العامة؟
أجاب: فى حالات كثيرة لا نضع النقط فوق الحروف.
سألته: فى أزماتنا الطارئة هل نضع النقط فوق الحروف؟
أجاب: من الضرورى نضع النقط فوق الحروف وإلا استعصى علينا التشخيص.
سألته: فهل هو منهج على أرض الواقع؟
أجاب: فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
قلت: أوافقك ولكن فى أزمة جزيرة الوراق. أسألك كوزير.
رد بسرعة: ليس عندى هذا الملف.
سألته: وجدانياً هل ينزل البولدوزر فى الوراق.. ده تمهيد الناس؟
أجاب بهدوء: كان ينبغى تمهيد أهل الوراق والتواصل معهم ونشرح لهم ما الهدف وضروراته.
سألته: ماذا يبقى منك الوزير أم الصحفى؟
قال: بمنطق النقط فوق الحروف، أنا عرفت مسؤولية الوزير وقبل ذلك كنت رئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس مجلس إدارة دار الكتب المصرية، ولكنى أقول إن هذه المناصب هى جمل عابرة ولكن يبقى الصحفى والكاتب والباحث.
قلت: هل أنت باق على منصب الوزير ولو كره المثقفون؟
قال: إطلاقاً، ولكن الوزير يأتى بقرار سياسى ويمشى بقرار سياسى.
قلت: من أفضل 3 وزراء للثقافة جلسوا على هذا الكرسى؟
قال: لا أحب أفعل التفضيل وأقلق منها، لأننا فى النهاية لم نكن مدققين.
قلت: أعرف علاقتك بالدكتور جابر عصفور.
قاطعنى وقال: قبل أن يكون وزيراً، هو ناقد كبير ومثقف عظيم ومفكر لا يستهان به.
قلت: هل تحترم جرأته؟
قال: بالتأكيد.
حرية التعبير والتطاول
قلت لوزير الثقافة: البعض ظنوا أن جابر عصفور فى مقالات له تحمل تطاولاً على الأزهر.
قال: لا أعتقد أنه تطاول، هو منتقد أداء مؤسسة ولسنا أمام مؤسسة مقدسة.
قلت: كيف تفهم حرية التعبير؟
قال: لابد من الإيضاح أن الأزهر ليس مؤسسة دينية ولكن دوره الوطنى والاجتماعى تاريخياً مهم جداً، ولأن له هذا الدور كان يفتح دائماً باب الجدل والحوار والاختلاف. وفى كتاب لى عن زمن الحملة الفرنسية على مصر «زمن بونابرت» لاحظت أن صغار طلاب الأزهر والمجاورين اتخذوا موقفاً مختلفاً لمواقف كبار المشايخ وحصل «انتقاد لهم» وسجلها الجبرتى، فالأزهر ليس مؤسسة مصمتة ولكنه مؤسسة مصرية تقبل الجدل والخلاف، ونحن إزاء مؤسسة من مؤسسات الدولة ينبغى أن يحافظ عليها ولكن الحفاظ عليها لا يمنع انتقادها.
قلت للوزير: بهذه الصراحة، صارحنى هل الثقافة خاضعة لتعليمات الأمن؟
قال: مقولة إن الأمن يدير الثقافة، مقولة خاطئة تماماً.
قلت: حتى فى اختيار قيادات؟
رد: غير صحيح.
قلت: لماذا أكاديمية الفنون فى روما فقدت بريقها؟
قال: أحب أحيطك أنه فى الفترة التى ساءت علاقتنا بإيطاليا لأسباب سياسية، هذه الأكاديمية قامت بدور فنى وثقافى كبير فلا أزيد.
قلت: لماذا رئيس هيئة قصور الثقافة من خارج المثقفين وهى مهمة لها وزنها السياسى. علمت أنك اخترت شاعراً لا نعرفه وأنه رجل أعمال وله بيزنس، وأريد الإضافة أن فاروق حسنى خرج من قصر ثقافة الأنفوشى وأنس الفقى جاء من قصور الثقافة.
أجاب النمنم: إحنا عاملين إعلان عن التقدم لوظيفة رئيس قصور الثقافة والموجود حالياً هو مثقف وشاعر مؤقت حتى اختيار رئيس جديد لقصور الثقافة.
قلت: هل تختار رئيسا لقصور الثقافة من المثقفين؟
قال: طبعاً، لو كان من المثقفين يكون أفضل من غيره مليون مرة.
قلت: سمعتك تقول «لا داعى لإعطاء قصور الثقافة هذا الوزن»؟
قال الوزير: لا. لم أقل ذلك، وما قلته نصاً: أنا ضد اختزال الثقافة فى قصور الثقافة.
قلت: معندكش فلوس لقصور الثقافة؟ صارحنى ليعرف الناس.
صمت الوزير برهة وقال: عندنا 588 قصر ثقافة واللى شغال 488 والمائة قصر منها 17 مهدمة تماماً والباقى يعمل بنصف طاقته، بمعنى أن مسارحها توقفت عن العمل بعد حادثة حريق مسرح بنى سويف، وعندما جئت للوزارة وجدت أن أضعف جزء فى ميزانية قصور الثقافة هو الجزء المخصص للأنشطة، وأنا طالبت بمضاعفته.
قلت: هل مررت على بعض قصور الثقافة؟
قال: منصبى يحتم ذلك، قصر ثقافة الأقصر فيه لما دخلته كل أعمال سيد قطب والقرضاوى فأمرت أن ترفع هذه الأعمال وتوضع أعمال بهاء طاهر ونجيب محفوظ. ولما ذهبت لقصر ثقافة الغردقة وجدت أن كتب العقاد ونجيب محفوظ وطه حسين موضوعة فى الخلف وموضوع الكتب المتأخونة فى المقدمة، ولما سألت، قالت المشرفة: كتب العقاد ونجيب محفوظ مفيش عليها طلب. قلت لها: يبقى انت اللى خلقت الطلب عليها، وأصدرت أمراً بتعميم هذا التوجه على كل قصور الثقافة.
قلت للوزير: كيف تطلب «أوبرا» فى كل محافظة فى بلد «فلوسها على قدها» ومعرضها الخاص بالكتاب: هل هو أمل أم مجرد أمنية وهو أمل غير واقعى؟
قال: أنا بطرح ده بحيث يكون فى ذهن المخططين وعلى الأقل يكون من الأهداف البعيدة.
قلت: هل فى الأقاليم موجات ثقافية لها وزن أم مجرد إرهاصات؟
قال: فى حركة ثقافية قوية، مين اللى مشى الإخوان؟
سألته: من فى تقديرك؟
قال: الشعب المصرى فى المحافظات. من الذى قاوم التطرف والإرهاب فى المنصورة اللى كان فيها خلايا حماس.
كشك فتاوى؟
قلت لوزير الثقافة: لماذا كشك الفتوى طالته خطوط الكاريكاتير الساخرة ومواقع التواصل؟
قال: الفتوى فى مصر وفى غير مصر لها رونقها الخاص، ولذلك ماينفعشى يتقال كشك، لأن المواطن المسلم بيروح الأزهر، والمسيحى بيروح يسأل الكنيسة، لكن مصطلح الكشك فى مصر يحمل معنى البيع والشراء.
قلت: مَن أطلق عليه هذه التسمية؟
قال: والله ما أعرف.
قلت: ولكنك تنتقده؟
قال: الفتوى لمهابتها الدينية ينبغى أن نحافظ عليها وعلى رونقها، فلا يقال كشك، إنما يقال مكتب الفتوى أو مقر الفتوى.
قلت: أنت معه ولست ضده؟
قال الوزير: الحقيقة مش ضده ولكن لا أحبذه، لأن الفتوى لها مكانها الطبيعى، وعلى المواطن ألا يسير كل خطوة فى حياته بالفتوى لأنها أرحب من ذلك بكثير، والدين يسر لا عسر.
قلت للوزير: اخترت شبابا مثقفا ولكنه قليل الخبرة والتجربة لمواقع هامة فى وزارة الثقافة.
قال الوزير النمنم: لماذا نقطع الطريق على الأجيال الجديدة؟
سألته: هل يتابع «الإعلام» نشاطات الوزارة ومعارضها؟
قال: أنا مش عايز أتكلم بصراحة، لأن منصبى يمنعنى من ذلك.
قلت: لماذا؟
قال الوزير: لأنه هيبقى تدخل فى عمل أطراف أخرى.
سألته: هل خاصمتك الصحافة؟
قال: ما أقدرش أقول إن الصحافة خاصمتنى.
قلت: ولكنها لم تعط أهمية لإنجازات الوزارة؟
قال: من رأيى أن كل واحد يعمل شغله. أنا باعمل شغلى، كون الصحافة تكتب أو لا، ده دورها، لكن أنا عارف إن المادة الثقافية ملهاش مساحة كبيرة فى الصحافة، ودى عقلية كثير من أصحاب الصحف ورؤساء التحرير.
قلت: الرياضة أهم؟
قال النمنم: بدليل أن بعض الصحف بتخصص يومياً صفحتين وتلاتة للرياضة.
ظهير الرئيس
قلت لوزير ثقافة مصر: حدد لى دور وزارة الثقافة كظهير للرئيس فى الحرب على الإرهاب.
قال: لقد قلت قبل أن أتولى منصب الوزير إن هذه الحرب هى أخطر من كل الحروب التى قادتها مصر، لأن هذه الحروب كان هدفها رد مصر إلى داخلها وعدم تجاوز حدودها، أما حرب الإرهاب فهى حرب ضد وجود مصر أصلاً، وبالتالى هى حرب وجود «ومنشنة» على الوطنية المصرية، فإذا فهمنا هذه الحرب بهذا المعنى يصبح دور المؤسسات التعليمية والثقافية بالغ الأهمية، وبالطبع فى المقدمة القوات المسلحة. ولكن المحافظة، والحفاظ على فكره الوطنية المصرية وعلى مفهوم مصر الوطنية يكون دور المؤسسات الثقافية والتعليمية، لهذا حرصنا على إعادة طبع أمهات الكتب الوطنية مثل نهضة مصر لأنور عبدالملك، ومصر فى رسائل حسين مؤنس، وسندباد مصر لحسين فوزى، ومستقبل الثقافة فى مصر لطه حسين، وشخصية مصر لجمال حمدان.
سألته: ما حال القراءة فى مصر؟
أجاب: طبقاً لإحصائيات اليونسكو فإن القراءة ارتفعت نسبتها فى مصر ونشر هذا فى جريدة عربية ولم ينشر فى مصر.
قاطعته: ولماذا لم ينشر فى مصر؟
قال: اسأل دور الصحف! ولكن دعنى أضع أمامك ملاحظة أن الكتاب يقرؤه آلاف، والبرنامج يشاهده الملايين.
قلت: هل فى مصر الناس «ترى» أكثر مما «تقرأ»؟
قال: ردا على سؤالك، فإن نسبة الأمية الأبجدية فى مصر تبلغ 25٪ وإن كانت بعض مؤسسات الدولة ترى أن النسبة أكبر، ولهذا قلت وطالبت بالاهتمام أكثر بالثقافة السمعية والبصرية، إن جزءاً من ثقافتنا بالسمع والبصر، ولهذا نهتم بالفنون الشعبية والتشكيلية.
هل تكره التكتلات؟
قلت لوزير الثقافة: لماذا لا تجلس مع المثقفين وتقابلهم فرادى؟
قال: قعدت معاهم كثير جداً من خلال معارض الكتاب وقصور الثقافة.
قلت: هل تكره التكتلات؟
قال: ماذا تقصد؟
قلت: أقصد مؤتمرات عامة للوزير يحضرها بنفسه ويسمع ويناقش؟
قال: أول ما تسلمت مهام منصبى عملنا مؤتمراً كبيراً عن تغيير الخطاب الثقافى.
قلت: لماذا يراك خصومك «وزير الافتتاحات والتكريمات وقص الشريط»؟
قال: أنا أذهب للمحافظات كثيراً تطبيقاً لمبدأ العدالة الثقافية، وهما عندهم طقس قص الشريط فى كل زيارة، علشان كده تدرك لماذا أعمل معرض كتاب فى دسوق. وأنا أول وزير حط رجله فى الواحات، وعملت نشاط ثقافى فى المنطقة المحيطة بدير سانت كاترين التى هُجرت منذ اغتيال الرئيس السادات، يعنى لو خرجت وشهدت بنفسى كل حدث ثقافى يقال إنى وزير قص الشريط، ولو قعدت فى مكتبى يقال قافل على نفسه باب مكتبه!!
سألته: ما موقف التليفزيون المصرى من نشاطات وزارة الثقافة؟
قال ببعض المرارة، شعرت بها من نبرة صوته: عند افتتاح مهرجان سينما الأقصر وكانت ترأسه الناقدة الكبيرة ماجدة موريس، تمنيت لها النجاح، وبكل الإمكانات الممكنة دعمتها. وقالت إنها ستدعو قناة النايل سينما، ووافقت ولكنها جاءت ثائرة وغير مصدقة أن القناة طلبت سفر 126 فرداً للتغطية، وبعد محاولات وصل العدد إلى 32 فرداً ويومها طلبت تبييض القصر، ويوم الافتتاح وجدت بقعة سوداء على الطلاء، وبعد السؤال والتحرى عرفت أن المخرج المحترم قذف الفنجان ببقايا القهوة على الحائط، وبعد التغطية لم يذيعوا إلا بعد انتهاء المهرجان بأكثر من أسبوعين، ولما رفضت تكرار التجربة هاجمونى وقالوا إنى أفضّل القنوات الخاصة وإنى أكره ماسبيرو.
مطلوب إقالتك!
قلت لوزير الثقافة: من الأمانة أن تعرف أن بعضاً من اتحاد الكتاب يعتقدون أنك لم تعطِ لوزارة الثقافة ما ينبغى لها، ولذلك جمعوا توقيعات يطالبون بإقالتك، ما تعليقك؟
قال الوزير بهدوء شديد: لا يمكن للوسط الثقافى الإجماع على شخص واحد، فهذا مستحيل.
قلت: يتردد فى الأروقة عبارة «القوة الناعمة»، هل هى فى الثقافة؟
قال: قضية القوة الناعمة ملف كبير، والعالم الآن يستخدم مصطلح «القوة الذكية» بدلاً من القوة الناعمة، وهو المصطلح الذى استخدمه أوباما فى حملته الانتخابية. القوة الناعمة غير محددة المفهوم فى أمريكا يطلقونها على الدبلوماسية، بينما فى مصر نطلقها على الفن. والقوة الناعمة لابد أن تقابلها قوة صلبة والتى فى مقدمتها القوات المسلحة وأجهزة معلومات وقوة اقتصادية. إن القوة الناعمة فى مصر الأربعينيات والخمسينيات كانت قوية لأن الاقتصاد المصرى كان قوياً، ولابد من وضع ذلك فى الاعتبار ونحن نتحدث عن القوة الناعمة.
سألته: ما خط التماس بين الإعلام والثقافة؟
أجاب: خط التماس بين الإعلام والثقافة كبير جداً، ولما جت وزيرة الإعلام الفرنسية سألتنى انتوا ليه الإعلام والثقافة مش فى دايرة واحدة. فقلت لها: عندنا لما تأسس التليفزيون فى الستينيات حدث صراع بين الثقافة والإعلام، وقد كان صراعاً شخصياً.
قلت للوزير فجأة: هل ترحب أن تكون وزيراً للثقافة والإعلام؟
قال الوزير بحسم: لا أرحب.
قلت مقاطعاً: والسبب؟
قال: الإعلام المصرى- يا أستاذ مفيد - مشكلاته ضخمة جداً الآن، ولابد أن تحل هذه المشكلات أولاً.
قلت: هل يزعجك إغلاق قنوات تليفزيون؟
قال النمنم: لا. الذى يزعجنى ألا تحترم المعايير المهنية.
طرحت سؤالاً بهدوء: سيدى، لماذا لم يمثل وزير الثقافة فى المجلس القومى.. للإرهاب؟
قال الوزير: لا أعرف، ولكن لو كل وزير دخل هيبقى مجلس وزراء تانى، ودور وزارة الثقافة موجود فى الشارع.
قلت للوزير: ما الفرق بين الوزير الفنان والوزير الموظف؟
قال حلمى النمنم: مفيش وزير موظف - الوزير بالأساس رجل سياسة.
سألته: هل تملك هذه الحكومة الكثير من الخيال أم هناك ضمور فى الخيال؟
أجاب: لو لم يكن لديها خيال لما استطاعت أن تواجه مشكلة فيروس C، وكان قد نشر فى «المصرى اليوم» عام 2000 مقالات ودراسات تقول إن القضاء على هذه المشكلة يقتضى 50 سنة، وكذلك مشكلة تحرير الصرف.
سألته: هل تقرأ هبوطاً فى الإنتاج الفنى؟
قال الوزير: الهبوط فى الفن يخضع للنسبية، الفن يختلف عن النظرية العلمية المحددة.
سألته: هل اهتممت بمتابعة شىء من دراما رمضان الماضى؟
أجاب: المشكلة هى الزحمة، فأنت أمام 44 مسلسلاً، فمن يملك الوقت؟ حتى المتفرغ للفرجة فقط، لا يستطيع.
سألت الوزير: هل الحق فى المعرفة مطبق فى بلدى؟
رد الوزير: إلى حد كبير.
وصمتنا..
لكنه صمت ثرثار فيما أظن.