مررت فى حياتى المهنية بعدة مشاهد جمع بينها تأكيد أحد العيوب التى تكون شخصيات الدائرة المحيطة بمناطق اتخاذ القرار، وأيضا إحدى المشكلات التى تشكل تحدياً لنا فى عصر نريده جديداً.
يمر المسؤول الكبير فى مناسبة عامة ويرى أمامه كاتبا فى صحيفةـ رسمية أو شبه رسميةـ أو شخصية عامة، فيقول له معاتبا أو زاجرا «ما هذا الذى كتبته- أو قلته- يا فلان؟» ويحاول الكاتب شرح وجهة نظره التى لا يستمع إليها المسؤول أو يوليها اهتماما، وينتهى الموقف ويبقى الأثر. فيتحول ذلك الكاتب، أو الشخص العام إلى شخص «مستحل» تبدأ السهام فى الاتجاه نحوه وإصابته. وتبدأ المعاناة من غياب الذين كانوا حوله فى يوم من الأيام. ويختفى طالبو الود سابقا، وتغيب كتابات الكاتب عن الصحيفة.
يظل الحال هكذا حتى يأتى يوم آخر- إن أتى- يلتقى فيه ذلك المسؤول بذلك الكاتب مرة أخرى، ويسأله: «لماذا لم تعد تكتب يا فلان؟»، ولا ينتظر منه إجابة أيضا، ولكن يتغير الحال ويعود إلى سابقه. فقد تمت إعادة الغطاء إلى الكاتب الذى سبق أن رفع عنه، بإيماءة مسؤول.
هذه القصة ليست قصة شخص بعينه أو مسؤول محدد، ولكنها- فيما أظن- قصة تقليدية متكررة فى مجتمعاتنا، لا أظن أن أحدا ممن قرأها الآن قد فاجأته فى شىء، بل قد يكون البعض ممن بدأ القراءة قد توقف الآن، فما يقال ليس بجديد.
هنا لا تهم تفاصيل القصة بقدر دلالتها التى تعبر عن ثقافة خاصة فى المجتمع، يمكن أن أسميها ثقافة تحسس تجاه المسؤول أو «قراءة أحلام المسؤول». وفى تعبيراتنا المتداولة فى إطار التندر أو الفكاهة والمزايدة يقال تعبير «أحلام سعادتك أوامر» برغم أنه يقع فى دائرة الفكاهة كما ذكرت، ورغم أنه يعد تعبيرا كاريكاتيريا عن وضع اجتماعى نعانى منه.
آثار هذا المرض لا تقف عند حدود النفاق الواضح للمسؤول، ولكنها تتخطى ذلك إلى أمور أخرى حياتية، أظنها تصب فى النهاية، فى خانة إعاقة أى مجهودات إصلاحية.
والحكاية أو النموذج السابق هو نموذج متكرر فى مستويات مختلفة ومجتمعات مختلفة، فمن يعملون مع المسؤول لا يملكون جرأة مناقشته فيما يقول أو يأمر به. ويبحثون عن نياته واتجاه تفكيره، وذلك لالتقاط ما يفكر فيه المسؤول أو يحلم به للسير فى الاتجاه الملهم للمسؤول، بل تتخطى الأمور حدودها عندما يصل حملة المباخر هؤلاء إلى مستوى تنظير ما ينطق به المسؤول، والبحث عن مزاياه الخفية وحكمته السديدة ورؤيته التى تتخطى حدود رؤية العامة من أمثالنا. أى باختصار، يلعبون دور منظرى الجهل.
طالما أن اليوم هو يوم الحكايات، فقد تكون الحكاية التالية مناسبة وهى عن ذلك المسؤول الذى سافر وبصحبته عدد لا بأس به من الناقلات ومعه أيضا عدد لا بأس به من المسؤولين والحاشية. وعندما حان موعد العودة إلى الديار، قرر أن يبقى هو لبعض الوقت. وكانت المشكلة الكبرى أن على بقية المسؤولين العودة فى الموعد المحدد لإدارة شؤون العباد. ولكن ظل السؤال الكبير: أى ناقلة يريد المسؤول الكبير أن يركب حينما يقرر العودة؟.
كانت الخشية- كل الخشية- أن يعود أحد أتباع المسؤول فى ناقلة قد يقرر المسؤول الكبير، فجأة أن يستخدمها إذا ما قرر العودة وأراد استخدامها بالذات. ولم يجرؤ أحد على الذهاب إلى ذلك المسؤول الكبير وسؤاله، أى واحدة من تلك الناقلات يريد أن يستبقى. وكان الحل الأسهل أن تبقى كل الناقلات، وبالتالى يبقى المسؤولون التابعون، لأن أحدا لم يجرؤ أن يسأل مجرد سؤال. إذا كان هذا الحل فى موقف كهذا، فكيف نتخيل الحال فيما يتعلق بمصائر بشر ومجتمعات.
الموضوع كبير ويحتاج إلى ما هو أكثر من كلمة، ولكن هنا فقط، أردت أن أشير إلى مشكلة حقيقية أظنها عائقا كبيرا أمام أى تقدم ديمقراطى، العجز عن مساءلة المسؤول.. العجز عن مناقشة القرار أو التهرب من مناقشته، بل التمادى إلى حدود التنظير للخطأ أو الجهل. كل هذه المشكلات حقيقية، ليست وهما، وليست أمرا هامشيا. كم من الهمهمات الناقدة المستنكرة لخطاب أو كلمة لمسؤول، وقتما ينتهى منها، يتسابق أولئك المهمهمون والمستنكرون ليهنئوه على كلمته ورؤيته.